مدينة بلا ملامح “3” الخرطوم.. عاصمة لا تقرأ لأنها بلا كتاب

ليست الإزالة وحدها هي التي كان يشعر بمرارتها في حلقه مذ أكثر من عامين، بل اللافتة التي أطلت بازدراء من واجهة مكتبته القديمة بعد إزالتها لتقوم مكانها دورات مياه عامة!!

ظل (مرتضى إبراهيم) يكرر باستمرار سؤاله الذي يؤرقه: لماذا أقيمت دورات المياه في مكان المكتبة التي كانت تحوي عشرات العناوين ومئات المجلدات المهمة؟، لماذا دورات مياه بالذات؟، هل في الأمر شبهة تعمد إهانة لتاريخ المكان أم أن الصدفة والعقلية الاستثمارية هي التي قادت لإنشاء المرفق الجديد تأكيداً للحقيقة الأزلية القائلة: “الجميع يشتركون في حاجة البطن ولكن حاجة العقل لها صفوتها وروادها دون غيرهم”، ولهذا أصبح المكان مشاعاً كدورات مياه وفقد خصوصية المكتبة التي كان يرتادها جلساء الكتاب فقط؟.

مأساة الكتب!!

لتكتمل مأساة الكتاب في الخرطوم لابد من الإشارة إلى حالة الحصار التي تفرضها سلطات المحليات على أسواق الوراقين، مما أدى لتشريد بعضهم وتغيير نشاط البعض الآخر بسبب عدم قدرتهم على مجابهة حصار الرسوم الباهظة التي تُفرض عليهم بين الحين والآخر فاتجهوا لإغلاق مكتباتهم أو نقلها إلى أماكن طرفية نائية هروبا من غُول هذه الرسوم التي ليست لديهم قدرة على تسديدها بسبب ضعف حركة الشراء نفسها كنتاج طبيعي للوضع الاقتصادي العام.

ما سبق جزء من حديث مطول أدلى به (عبدالجبار الأمين) أحد أقدم أصحاب المكتبات التي تمت إزالتها من سوق البوستة بأم درمان الذي كان يضم عددا وافرا من المكتبات خلال السنوات الماضية، ويتحسر (عبدالجبار) على ما حل بالسوق لا لجدواه الاقتصادية أو الأرباح التي كانوا يجنونها منه لأن هذا لم يكن في حسبانهم قط، ولكن لسبب آخر أكثر عمقاً وشمولية، إذ أن السوق وبحسب وصفه كان أحد أهم معالم العاصمة وهو جزء من تاريخ طويل يدعم مقولة شهيرة تبيّن أن الخرطوم تمارس فضيلة القراءة دون غيرها من عواصم العالم التي كانت تكتب وتطبع فقط. ويؤكد (عبدالجبار) أن خسارة إزالة السوق لا تعوض مهما تم من تسوية بين أصحاب المكتبات والسلطات، لأن المأساة ليست في خسارتهم مواقع تجارية لم تكن تدر عليهم أرباحا مقدرة، بل إن الفقد الجلل في بعثرة أكبر سوق يجمع عشرات المكتبات كانت تمثل وجها مشرقا لدور الدولة في نشر المعرفة من خلال التشجيع على امتهان مثل هذا النشاط.

عاصمة بلا جليس!!

ويشير (عبد الجبار) إلى أنه بعد إزالة تلك المكتبات التي كانت تشكل أكبر سوق للكتاب أصبح من العسير أن تجد عددا منها في مكان واحد، فقد تفرق الجميع بين الأسواق وتركز نشاطهم على المطبوعات الآنية كمذكرات الطلاب والكتاب المدرسي وغيرها من الإصدارات الحديثة، مما أدى لاختفاء مطبوعات نادرة كان القراء يجدونها في أرفف المكتبات العتيقة التي تمت إزالتها لتقام مكانها أنشطة تجارية يستطيع أصحابها دفع ما يفرض عليهم من رسوم وجبايات نهاية وبداية كل شهر على مدار العام، والوصف لـ(عبد الجبار) الذي قال: لا توجد عاصمة في العالم كله تخلو من سوق للكتب إلا الخرطوم التي تستحق أن يطلق عليها وصف (عاصمة بلا جليس) لأن خير جليس في الزمان كتاب، والعاصمة حاربت الكتب والمكتبات بالرسوم والجبايات ومنعت أصحاب المكتبات من العمل في المواقع المهمة لأن نشاطهم ليس ربحياً كما هو معروف في الأنشطة التجارية الأخرى التي صارت تجد أفضلية وأولوية رسمية لأن وراءها عوائد مادية كبيرة، ولهذا خلت كل محليات العاصمة من مكتبات مهمة يرتادها القراء أو ضيوف المدينة الذين لم يصدق بعضهم أن العاصمة الخرطوم لا توجد فيها مكتبة ذات شأن!!

محاولات تغبيش ممجوجة!!

وكي تظهر اهتمامها بالكتاب طلبت محلية الخرطوم من بائعي الكتب الذين يفترشون الأرض وسط السوق العربي أن يستغلوا عددا من الأكشاك جوار مدارس كمبوني، سبق وأن منحتها بائعي الأحذية والملبوسات ولكنهم غادروها لوقوعها خارج السوق تماماً؛ كما قال (مهند الطيب) أحد الذين استجابوا لنداء المحلية ولكن (مهند) جزم باستحالة العمل في تلك الأكشاك لأنها ـ بحسب وصفه ـ كانت لفترة طويلة تجاوزت العامين، مكاناً يقضي فيه المشردون حاجتهم ولهذا يصعب تنظيفها في فترة محددة لتصبح لائقة بالكتب، وحتى إذا تمت نظافتها فإنهم لا يثقون في وعد المحلية التي يمكن أن تأتي في أي لحظة وتنتزعها منهم أو أن تضاعف لهم الرسوم فيعجزوا عن تسديدها ويغادروا من تلقاء أنفسهم.

وسخر (مهند) من الالتفاتة التي جاءت متأخرة من قبل المحلية لأهل المكتبات وقطع بأنها خطة أرادت السلطات من خلالها أن يقوموا بنظافة وإحياء المكان الذي أصبح مأوي للمشردين ومن ثم طردهم منه بأي وسيلة، وأشار إلى أن “سلطات بعثرت مكتبات البوستة الشهيرة لا يمكن أن تمنح الوراقين سوقا في وسط السوق العربي” ولهذا ستظل الخرطوم حتى إشعار آخر عاصمة بلا ملامح وبلا جمال وبلا سوق للوراقين

Exit mobile version