في مثل هذا اليوم من عام 1958 استقيظ أهل السودان على مارشات عسكرية منطلقة من إذاعة أم درمان، يتخللها كلام يقول: بعد قليل سوف نذيع عليكم بياناً مهماً من القوات المسلحة فترقبوه. لم يدر بخلد أحد أن هناك انقلاباً عسكرياً، لأن الناس لا تعرف ما هو الانقلاب العسكري، كانت تعرف الحكومة الاستعمارية والحاكم العام ثم الاستقلال والأحزاب والأزهري وحكومة السيدين، وعندما سمعوا البيان علموا ان القوات المسلحة ممثلة في قيادتها قد استلمت السلطة، وتم حل الحكومة ممثلة في مجلس الوزراء مجلس السيادة، وحل البرلمان وتعطيل الأحزاب؛ إذن هذا هو الانقلاب العسكري.
والإذاعة تردد البيان، كان الأفندي محمد عثمان وردي المدرس بمدرسة الديم الصغرى يمتطي دراجته الرالي، متجهاً إلى مدرسته، وعندما شعر بأن الناس في حالة غير عادية، تكل دراجته أمام أحد الكناتين، وسأل عن الحاصل، وتاكد أن الجيش سوف يحكم، وأن الأحزاب وحكومة السيدين قد راحت في ستين داهية، ولما كان وردي قدم حديثاً للخرطوم، لكي يقدم نفسه لعموم السودان كفنان قومي، وكان في حالة البراءة الأولى، ألف في الساعة والحين قصيدة في هذه المناسبة تقول (في 17 هب الشعب طرد جلادو/ في 17 ولى الظلم الله لاعادو / في 17 بعثت ثورة ثورتنا السلمية / لا ضمائر تتباع / لا سادة لا رعاع / افرح وطني هلل وكبر في يوم الحرية/ جيشنا الباسل هب وهلا راية الجمهورية)، وقد ولدت القصيدة ملحنة، وانطلق بها وردي للإذاعة، فسجلت وبثت، وكانت أول أغنية لنظام عبود جبل الحديد كما غنى مغنٍّ آخر (حاشية داخلية.. هذه الأغنية نسبت كلماتها لإسماعيل حسن لحاجة في نفس الثنائي).
وردي الذي وصف ذلك اليوم بـ(يوم الحرية)، عاد في أكتوبر 1964 أي عند نهاية حكم عبود ليغني: (أصبح الصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باق)، من كلمات الفيتوري (حاشية داخلية.. الفيتوري كتب هذه القصيدة في 1963 مرحباً فيها باجتماع وزراي إفريقي في عهد عبود، ولكن وردي جيّرها لنهاية عبود لحاجة في نفسه)، لا أظن أن الفرعون وردي كان متناقضاً، بل على العكس كان متصالحاً وصادقاً مع نفسه، كان كارها للأحزاب والأسياد، فرحب بالجيش، وهو يستلم السلطة، فجاء تهجير أهل حلفا، وقاد تظاهراتهم بنفسه في الخرطوم، ثم انضم للمعارضة المنظمة لعبود الحزب الشيوعي فكانت أصبح الصبح وأكتوبريات شاعرنا العظيم محمد المكي إبراهيم.
الجماهير التي صنعت أكتوبر لا أحد يلومها لا بل على العكس تماماً، لا بد من تمجيدها لأنها كانت تتطلع للأحسن.. كانت تريد توسيع قاعدة المشاركة، وكانت تريد الإسراع بوتيرة التنمية، وكانت تقارن السودان بدول أخرى. ولكن ما حدث بعد أكتوبر من انتكاسة وخيانة نخبة وارتداد للحزبية والطائفية ثم العقائدية، تسأل عنه ظروف السودان والنخبة التي طلعت في الكَفَر بعد أكتوبر. أما أن يقارن الناس نظام عبود بما جاء بعده من نظم عسكرية، ويقوموا بعملية جرد حساب مفادها أن نظام عبود أنجز كذا وكذا، والنميري فعل كذا وكذا، والبشير فعل كذا وكذا, سلباً وإيجاباً في الحالات الثلاث فهذه مقارنة مشروعة، والحساب ولد، وإذا وصل الناس إلى خلاصة بأن نظام فلان كان البرنجي، فهذا حكم التاريخ، والتاريخ ولد شاطر وحقاني لا يظلم ولا يرحم فدمه من حبر.
[/JUSTIFY]
حاطب ليل – أ.د.عبد اللطيف البوني
صحيفة السوداني
[email]aalbony@yahoo.com[/email]