لكن لماذا العجب من فعل الطيب مصطفى المفاجئ هذا، طالما أنه مقرر في واقع الأحياء أنه لا يؤمن عليهم من فتنة الحياة وصروف الدهر.. ورئيس منبر السلام العادل الآن قد سقط في هذه الفتنة بعد أن ذبح المبادئ وجعل قضية هوية الأمة وراء ظهره واتبع ما تتلو الشياطين على ملك عرمان، وما سعى إليه عرمان ولكن هو إلى عرمان سعى!!.. لكن بحكم قربي من الطيب مصطفى لفترة ليست بالقصيرة وإلمامي بقدر وافٍ من أساليب التفكير عند الرجل وطريقة التعبير عن هذه الأفكار وطريقته في اتخاذ القرار، لم يكن الأمر عندي بالمفاجئ والصادم.. هو صادم لمن ظل متوهماً أن المنبر مازالت فيه بقية من الحياة، وهو مفاجئ لتلك الأوساط التي مازالت بين يديها كتابات الطيب مصطفى عن الحركة الشعبية وعرمان والجبهة الثورية غضة طرية لم يجف مدادها!!
لست متصالحاً مع العبارات التي تقول «السياسة لعبة قذرة»، «السياسة عبادة المصالح»، «السياسة ليس فيها صديق دائم ولا عدو دائم»، «السياسة فن الممكن ومسايرة الواقع».. لكني أرى أن السياسة قيدها الأخلاق، فلا بد من اخضاع السياسة للأخلاق، فإذا خضعت أكسبتنا الصدق والأمانة واليقين وقبول الحق ورد الباطل.
ولا يغرنك خطيب ذو حلقوم كبير.. أو كاتب يسود صفحات الورق بعاطفة جياشة يبث الأشجان ويبعث الحماس.. فالحماس والاندفاع والانطباع ليس وحده كافياً لوقاية صاحبه من زلزلة الفتن فلا بد من إيمان وحكمة. إعلان باريس الذي وقعه الصادق المهدي مع أعضاء الجبهة الثورية ـ وهم القتلة المطلوبون للعدالة والقضاء لجرائم حرب ارتكبوها في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور ـ سيكشف مع مقبل الأيام أن الغدر صفة ذميمة تقطع رقاب الرجال وليس لدينا تعليق أكثر من أن نقول إن عداء الصادق المهدي للإسلام شيء لا تخطئه عين من يعرف حقيقة الإسلام، وهو يجادل بالإسلام ولكنه لا يرفع شعارت الإسلام، لأنه تلميذ الغرب النجيب.. اسمع إلى «سكوت غرايشن» مبعوث الولايات المتحدة الأمريكية السابق لدى السودان ماذا قال:..؟ في رسالة بعث بها إلى صديق له في أمريكا «يتحدث عن الصادق المهدي يقول: «هو مثقف على طريقتنا ـ ضع خطين فوق «طريقتنا» ـ لكن يبدو أن بعض فلاسفتنا قد أفرط في حقن ذهنه بالجدل الطويل والتوهم، فهو رجل نبيل ولكنه ضعيف عديم التصميم، لا يكاد يبني فكرة حتى يهدمها قبل أن يمضي في إنفاذها في الواقع» انتهى..
حين نسقط هذا الوصف على فعل الصادق المهدي في السودان نصاب بالدهشة.. فماذا فعلت تهتدون.. ماذا فعلت يستبشرون.. ماذا فعل العصيان المدني.. ماذا فعلت أوهام الدولة المدنية وفق تصور الصادق المهدي العلماني.. ماذا فعل تجمع إجماع قوى جوبا.. وهل يفعل إعلان باريس شيئاً؟! وماذا فعل من قبله بيان تفلحون؟
كثيرٌ من الناس يتحدثون عن الأسباب الخفية التي جعلت الطيب مصطفى الذي كان يصف خصومه السياسيين بالمنبطحين وقبيلة النعام والمغول الجدد والجبهة الثورية بالأوغاد.. كيف له بعد هذا كله يتخلى عن مبادئه.. وقد صدع الرؤوس بكتاباته المتكررة حول التحذير من قضية الاستبدال كأنه نذير قومه قام بينهم بين يدى عقاب شديد، وتحذيره من مشروع السودان الجديد الذي بلغ به حد «الهوس» في الكتابة والخطابة، وأفرغ جام غضبه على الجبهة الثورية بعد فجرها الجديد الذي وصفه بالفجر الكاذب ـ سبحان الله مغير الأحوال!! اليوم صار هذا الفجر الكاذب عند الطيب مصطفى فجراً صادقاً بالرغم من أنه لم يتغير فيه شيء فهو هو!! بل لم يسلم الصادق نفسه والميرغني من هجومه الدائم بسبب وجود بعض الأفراد من حزبي الصادق والميرغني وهما نصر الدين الهادي وهجو في قائمة من وقعوا على وثيقة الفجر الجديد، وأفرغ نيران «زفراته الحرى» على الكودة وجبريل إبراهيم ومني وعبد الواحد.. وكتب عن غزة وآلامها.. وتغزل في الشهيد البطل سعيد صيام، لكنه عاد ليقول «علينا أن نعيد النظر في علاقتنا مع إسرائيل، وليس هناك شيء يمنع من ذلك سوى خوف الساسة».. وإسرائيل هي التي تمارس إرهاب الدولة على الفلسطينيين فأي تناقض مثل هذا؟!
نحن الذين كنا قريبين منه في المنبر لا نرى مفاجأة في موقفه الجديد الداعم لإعلان باريس الذي ما فرح به إلاّ العلمانيون والشيوعيون، وقليل من المتعاطفين على غير هدى وتبرير، ونحن نحترم وجهة نظرهم وتحليلهم، ولكن حالة الطيب مصطفى هذه جاءت في سياقها الطبيعي.. نحن نعلم عن قرب أن الطيب يمتلئ حماساً وانفعالاً وعجلة في اتخاذ القرار تحول دائماً بينه وبين التفكير الطبيعي الراسخ، لذلك نحن نعلم أنه لا يقتدى بما يكتبه للناس من تحذير ومواعظ ونصائح يصدرها بالآيات والأحاديث.. بل نعلم أنه كان كثيراً ما يرد الحق ويأول بعض وجوه الباطل على غير هدى منهجي، ويصدر عنه في حالات كثيرة بطرٌ عظيم حين يواجه بالمناصحة والمراجعة، وإن كانت في السرار بعيداً عن أعين الناس ومسامعهم، وبه كثير من القلق الذي يطغى دائماً عليه ليحجب عنه صفة التأني والتثبت.
وبعض الشواهد تقوم هنا دليلاً على ما ذكرنا من أحوال نفس الطيب مصطفى غير المستقرة على شىء، وإن كتب في التفريق بين «الثابت والتكتيكي» في السياسة، لكنه لا يعير هذا التفريق اهتماماً عند التطبيق.. يذكر الناس جيداً كيف خرج من عند إخوانه الإسلاميين في جبهة الدستور الإسلامي التي بذل فيها جهداً كبيراً وتحمس لها كثيراً، وقد راجعناه في عدم الخروج لكنه خرج!! خرج وذهب ليكون تحالف القوى الوطنية والإسلامية، وقد تحفظنا على بعض الشخصيات فيه، لكنه أصر عليه ومضى، ونهاية المطاف كان أن نزع فيما بعد هذا التحالف وسلخ نفسه من اسم الإسلام، وأذعن لذلك الطيب، بل طلب منه قبلها تجريم الانفصال الذي كان عنده مبدأ وليس وسيلة من خلال المذكرة الشهيرة التي أعقبتها قصة اعتقال الأخ أمين بناني أيام رفع الدعم عن المحروقات.. ثم عاد وانخرط في تحالف جديد كنسخة معدلة من تحالف القوى الوطنية والإسلامية، رغم أنه ظل يكتب مقولة الفاروق عمر رضي الله عنه ـ ولست بالخبء ولا الخبء يخدعني» سقط منبر السلام العادل في أول انتخابات له من خلال انتخاب آلية «7+7» بين الحكومة والمعارضة ولم يحصل المنبر على شيء سوى أصوات أربعة!!
لأن المنبر لم يكن مهيأً أصلاً من حيث التنظيم والتفكير خاصة بعد أن غدر الطيب مصطفى بالإسلاميين داخل المنبر وصفى حساباته معهم نتيجة خشيته وقلقه الدائم من نصائحهم ومراجعتهم إياه، والطيب رجل يضيق صدره عند النصح، والشورى عنده حالة صورية ولا يمكن إرضاؤه إلاّ إذا أخذت برأيه وإن كان به عوج.. لكن الطيب في المقابل احتضن العلمانيين داخل المنبر وبعضهم لا قيم لهم ولا أخلاق، وهذا سر تدمير المنبر وانفضاض سامره وخروج الناس عنه، وإغلاق جميع مكاتبه في الخرطوم والولايات، حيث صار أثراً بعد عين وتلاشى سريعاً نتيجة سوء التخطيط والإفراط في الأحلام والأماني دون عمل، والحديث حول أنه تعرض لمؤامرة حديث يأتي في سياق الاستهلاك والبكاء على اللبن المسكوب وتغطية لعورة التقصير وسطحية تفكير القيادة.
بتأييد الطيب مصطفى لإعلان باريس فقد من تبقى من أنصاره في المنبر وخارج المنبر. وانطلقت أفراح عرمان ورفاقه الذين رأوا في موقف الطيب مصطفى الجديد هذا انتصاراً لمشروع السودان الجديد، وانتصاراً لقوة السلاح والخروج على سيادة الدولة والقانون، وانتصاراً لمبادئ الغابة التي جاءت على جماجم الإنسانية في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور، وتأييد الطيب لهذا الإعلان جاء في إطار خلوده إلى الأرض واحتكامه إلى حظوظ نفسه وأحقاده الشخصية، حيث بدأ الآن يخرج أضغانه، وسوف يخرج الكثير في مقبل الأيام، فالطيب مصطفى كان لا يرى في عرمان إلاّ مجرد جلابي سفيه العقل تبع الجنوبيين ضد أهله، وهو الرويبضة «الرجل التافه» وهو «ديك العدة» ، وهو «ديك المسلمية» الذي يعوعي وقد حُمرت بصلته، قال له ذلك عندما سُحب من انتخابات سباق رئاسة الجمهورية من قبل سلفا كير سنة 2010م، وأذكر أن بعض أهل منطقة المسلمية احتجوا على تشبيه الطيب لعرمان بديكهم في مقال نشر بـ «الإنتباهة» ـ ذاكرين أن ديكهم صالح يوقظ أهله لصلاة الفجر.. وعرمان الذي رفض كتابة البسملة في صدر الدستور واعتبر أن قطع يد السارق وجلد ورجم الزاني الذي أمرت به الشريعة الاسلامية، لتطهير المجتمع من الخبائث اعتبره عرمان انتهاكات لحقوق الإنسان!!
الطيب مصطفى اليوم أبطل قانون أنه لا يمكن التقاء خطين متوازيين عندما التقى مع الجبهة الثورية واعتبرهم مناضلين لهم قضية، وهم الذين قتلوا أهل السودان ظلماً في كل مكان في «أبو كرشولا» «وود بندة» وأم روابة وكالنج، حيث في تلك المناطق جرت فظائع القتل، والتقى بالرفيق عرمان وكأنه يتوهم أن هذا الالتقاء.. لقاء جيل البطولات بجيل التضحيات رفع له القبعة وقبل عرمان الاعتذار الجميل بقوله في تصريح صحفي «مشروع السودان الجديد في جوهره مشروع للتعايش المشترك والقبول بالآخر، ونرحب بموقف الطيب مصطفى من إعلان باريس، وهو بادرة تجد الترحيب منا، ونحن لسنا أسرى لمرارات أو أحقاد تجاه أفعال الآخرين..». وقصد عرمان أن يذكر الطيب مصطفى بمشروع السودان الجديد كمبدأ ثابت عليه، ورحب بالطيب مصطفى الذي ترك مبدأه، وبهذا عرمان يقول للطيب عذرك بلسان حالك مقبول مرحباً بك.
وذكر لي الطيب مصطفى أكثر من مرة أيام خلافات الترابي والبشير ـ وقد سعى في الصلح بينهما ـ أن الترابي صار أسيراً لأحقاده الشخصية وغلّب مصلحته الشخصية على مصلحة الحركة الإسلامية والوطن، فما أشبه الليلة بالبارحة، فلمصلحة من اليوم يغلِّب الطيب مصلحته الشخصية ويجلد المبادئ ويسير في الاتجاه المعاكس لمساعي الحوار الوطني؟ هل لأنه كان يرى أن المنبر قرب أمره أن يكون البديل.. رؤية أضغاث أحلام ـ والمنبر اليوم ليس أنه البديل فحسب، بل المنبر اليوم بلا دليل بعد أن خرج رئيسه عن مبادئه متكئاً على منسأة أحقاده الشخصية ضد النظام، راكباً سفينة الجبهة الثورية اختباراً لا اضطراراً فسبحان الله مغيِّر الأحوال.
صحيفة الانتباهة
ت.إ[/JUSTIFY]