معتمد الخرطوم مبارك الكودة تحدّث في المؤتمر الصحفي الذي عقد برئاسة شرطة ولاية الخرطوم عقب نقل مواقف المواصلات الأخير من وسط الخرطوم منتصف ديسمبر الماضي.. مبدياً عدداً من الأسباب التي دعت لنقل المواقف وقال إن قرار تحويل المواقف الهدف منه محاربة الفساد الأخلاقي والاجتماعي والسياسي الذي يسود منطقة السوق العربي، مطالباً بإصدار قوانين رادعة لإظهار هيبة السلطة وهاجم الكودة بائعات الشاي واتهمهن بممارسة الرذيلة ومخالفة النظام العام، وأوضح أن المحلية بصدد إصدار تصاديق بالتعاون مع الشؤون الاجتماعية لبائعات الشاي واعفائهن من الرخصة التجارية ورسوم الخدمات والرخصة الصحية بعد خضوعهن للكشف الطبي.
خبر آخر صار مادة دسمة للأقلام الصحفية أواخر أكتوبر الماضي يتحدّث عن ضبط مجموعة من العصابات المنظمة التي تستجلب الأجانب للتسول وسط الخرطوم.. حيث قال الفريق شرطة محمد نجيب لـ(اس.ام.سي) إن السلطات المختصة قامت بضبط متسللين أجانب على الحدود كانوا يعتزمون المغادرة لبعض الدول الأوربية وإسرائيل إضافة لعصابات منظمة تعمل على تهريب المتسللين عبر الحدود وجلبهم للتسول بوسط الخرطوم، وقال الفريق محمد نجيب الطيب مساعد المدير العام لشرطة ولاية الخرطوم إن ضبط هذه العصابات جاء بعد أن أكدت المتابعات وجود متسولين أجانب بوسط الخرطوم معظمهم من ذوي الأعذار وكبار السن والأطفال كاشفاً عن تقديم أفراد هذه الشبكات لمحاكمات فورية ليكونوا عظة وعبرة لغيرهم وذلك بالتنسيق مع دول الجوار. وأعلن الطيب عن خطة أمنية لشرطة ولاية الخرطوم للحدّ من المتسولين ووضع ضوابط مشددة للحفاظ على العاصمة القومية من مظاهر الفوضى.
ربما رسمت الفقرات السابقة ملمحاً خاطفاً لما وصل إليه الحال بوسط الخرطوم التي كانت في يوم من الأيام متنفساً ومتنزهاً لأهل الخرطوم بما تحمله من جمال وأمن وأماكن للتسوق والتبضع.. الشيء الذي جعلها تنتعش ليلاً ليتحدث الناس عن «الخرطوم بالليل».. التي أصبحت الآن تنام قبل ان ينام زوارها علي قلتهم.. ولعل ما وصلت إليه الخرطوم في الآونة الأخيرة والذي تحدّث عنه المعتمد الكودة هو ما دفع السلطات إلى نقل مواقف المواصلات خارج السوق العربي مما ادى لاسقاط النقاب عن وجه وسط الخرطوم الأخر ليراها المسؤولون كما لم يروها من قبل.
ليعود المعتمد مرة أخرى.. ويتحدث ليس عن إخلاء الخرطوم وانما عن اعادة الحياة إليها.. وكشف عن خطة المحلية لاستغلال المساحة التي كان يشغلها الموقف القديم والمحلية وغرب المسجد في إنشاء مسطحات مائية وإعادة ترتيب أوضاع منطقة وسط الخرطوم عبر تنظيم ممارسة الأنشطة التجارية وتحسين مراقبة الأسواق والمواد الغذائية إلى جانب تجميل المنطقة وإحياء النشاط الليلي وأكد الكودة أن المنطقة موعودة بتغييرات اقتصادية واجتماعية.. وقال إن الخرطوم متاحة الآن للاستثمارات ومواكبة النهضة والتطوّر، مبيناً أن هنالك مشاريع متعددة لإعادة تنظيم المواقف وتهيئة النشاط التجاري وتنظيمه، وقال لسنا ضد النشاطات العشوائية ونفكّر في المواطن الفقير، مشيراً إلى وجود خطط لتقنين البيع المتجوّل وتحويله إلى بيع ثابت داعياً المواطنين لضرورة إحياء النشاط الليلي وإعادة الخرطوم لسيرتها الأولى.. وأضاف الكودة (نريد إعادة الخرطوم بالليل عبر النهوض بالمسارح الليلية والمنتديات الثقافية).
أما مقرر القطاع الخدمي بمجلس وزراء الولاية د. محمد علي عبد الحليم فتحدّث عن انكماش العملية الاقتصادية بوسط السوق العربي معزياً ذلك لتحديد ساعات النشاط الاقتصادي وضعف حركة البيع والشراء ليلاً ودعا أصحاب الكافتيريات لاستغلال الأرصفة في الفترات المسائية لإحياء النشاط الليلي، مشيراً للجهود المبذولة لإنارة وتجميل الشوارع بالإضافة إلى استيعاب أكبر عدد من البنوك في وسط الخرطوم للمساهمة في الحركة الجمالية عبر عمل مجسّمات لتلك البنوك.
سألت الأستاذ عباس الجاك مسؤول الإعلام بمحلية الخرطوم.. عن خطة المحلية التي كشف عنها الكودة مؤخراً فقال شارحاً.. «الخطة لديها هدفان.. الأول اعادة الحياة الى قلب الخرطوم ويقصد بقلب الخرطوم المنطقة من شمال السكة الحديد وحتى شارع الجمهورية أو شارع الجامعة وتشمل السوقين العربي والافرنجي».. واضاف متحدثاً عن هذه المنطقة بالقول «هذه المنطقة يتدنى العمل فيها بالفترة المسائية وتغلق المتاجر من الساعة الثامنة مساء وفقاً للقرار الذي صدر في عهد الرئيس السابق جعفر نميري والذي ظل معمولاً به حتى الآن». وعن الهدف الثاني فقال «الهدف الثاني هو إضفاء لمسة جمالية على المنطقة المعنية»
الهدفان السابقان يحتاجان إلى وسائل للتنفيذ تحدث عنها عباس قائلاً «ستفتح كل المطاعم والكافتريات والمساجد في الفترة المسائية وستسمح السلطات لأصحاب الكافتريات والمقاهي باستخدام الرصيف الخارجي للعرض وتقديم الوجبات والمشروبات.. ليتصاحب كل هذا مع خطة الولاية الهادفة لاضفاء اللمسة الجمالية عن طريق المسطحات المائية «نوافير» ومسطحات خضراء». وحسب عباس فإن تنفيذ الخطة بدأ بإزالة مبنى المحلية القديم وموقف بحري «ابو جنزير» والمنطقة غرب المسجد الكبير لتصبح كلها مسطحات خضراء. كما ستتم اضاءة الشوارع الرئيسية والفرعية «كل شارع بلون مختلف» مع وجود اعمال تشجير وحدائق وستتحوّل المنطقة شرق شارع بيو يو كوان إلى مسطح أخضر.. وسيتم إنشاء مسطحات خضراء ومطاعم حديثة داخل موقف السكة الحديد.
أضاف عباس أن الخطة شملت تأهيل الحدائق العامة بالخرطوم مثل «6» أبريل وحدائق الهيلتون.. ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه هنا.. كيف يصل المواطنون الى وسط الخرطوم في ظل عدم وجود مواصلات عامة؟ عباس اجاب بالقول «ستكون هنالك مواصلات خاصة لقلب الخرطوم من المواقف الرئيسية (مواصلات دائرية) راقية وسياحية تليق بوسط مدينة او عاصمة».
الكثير من التجار وأصحاب العقارات والمحال التجارية ما زالو يوجدون بالمنطقة منذ زمن بعيد وبعضهم حديث عهد بها.. كيف تلقوا القرار وماذا قالوا؟ عباس قال «التجار رحّبوا بالفكرة وتحدثوا عن الإرث التاريخي القديم للمنطقة التي قد يمثل المشروع الحالي ابتعاثاً لتاريخها من جديد». وتابع إنه تم استصحابهم حيث كانت الخطوة الأولى باجتماع المحلية بهم بوزارة المالية وحضرت كل الشركات والبنوك والكافتريات والمطاعم والمحلات الكبيرة بقلب الخرطوم وخرج الاجتماع بتسمية ممثلين من الجانب الحكومي ممثلين في مستشار الوالي والشؤون الهندسية والجهاز التنسيقي لإعداد ورقة علمية توضح تصوراً لوسط الخرطوم.
التجار وأصحاب المحلات الذين استطلعتهم بشارع الجمهورية اتفقوا على ضرورة عمل مواقف للسيارات أمام المحال التجارية للحفاظ على الزبائن وممتلكاتهم واعادة النشاط التجاري للمنطقة وأضافوا ان اعادة الخرطوم لسيرتها لن تتم الا بعودة المواطنين اليها ومعالجة الاشكالات البيئية والامنية وانارة الشوارع. مصطفى احمد علي (استديو محمدين) وهو من المحلات القديمة بالمنطقة تحدث مشككاً في إمكانية عودة الخرطوم لما كانت عليه وقال «في السابق كانت الأسر تأتي إلى شارع الجمهورية وشارع البرلمان للتسوق حيث توجد «دكاكين» الأقمشة والمطاعم أما الآن فإن الأسواق انتقلت للأحياء (بوتيكات، بقالات، محلات موبايلات… إلخ)».. وتابع متساءلا «كيف سترجع الحركة التجارية اذا انتقلت الاسواق للاحياء». وضرب مثلاً بالقول «في السابق كانت استديوهات التصوير تعد على اصابع اليد».
محمد الذي بدا متشككاً من عودة الخرطوم لوضعها القديم قال متحدثاً عن الأوضاع الآن «منذ عهد نميري (أيام المرتزقة) أصبحت الخرطوم تغلق باكراً فنحن نغلق ما بين التاسعة والثامنة والنصف مساء لعدم وجود حركة تجارية».. إشكالات تحدث عنها محمد قد تعيق الخرطوم عن الرجوع لسابق عهدها مثل وجود النشالين والمتشردين وتعرض السيارات للسرقة.. وأضاف «لا أحد يمكن أن يتنزه مع أسرته ليلاً.. وإذا لم تنته هذه الإشكالات فإن الخرطوم لن ترجع لما كانت عليه».
مدير أحد الفنادق العريقة بالجمهورية اتفق مع من سبقه في أن قرار اغلاق السوق من الساعة الخامسة في عهد نميري أثَّر في الحركة التجارية بالسوق وعلى السياحة قال «الفندق (فاضي) والمنطقة غير سياحية وكانت في السابق تعج بالحركة والبيع والشراء.. والسياحة تعني البيع والشراء والحركة والتنزه وأنا الآن لديَّ 32 محلا أسفل العمارة ولكنها تغلق جميعا» عند الخامسة مساء».. وتابع «شارع الجمهورية تغيّرت خارطته وأصبحت نسبة كبيرة منها وكالات سفر وأدوات منزلية أما سابقاً فقد كان الشارع من بدايته وحتى نهايته عبارة عن مقاهٍ ومحلات ملبوسات وترزية وكانت الشوارع كلها مضاءة (إذا وقعت منك إبرة تجدها)». ويرى ان اعادة الخرطوم لوضعها السابق ليست «مستحيلة» ولكن الامر سيأخذ وقتاً اكثر من سنتين، فالمواطنون يحتاجون وقتا للتأقلم مع الوضع الجديد.. كما ان هنالك تحديات تتمثل في الامداد الكهربائي والنظافة والامن، ولكن هنالك ايجابيات كثيرة منها خلق فرص عمل لأعداد كبيرة من المواطنين ومن يعمل فترة «دوام واحد» يمكن أن يعمل بنظام الدوامين مما يعني زيادة الدخل وإحياء الحركة بالمكان.
الدكتور شرف الدين بانقا وزير الشؤون الهندسية السابق قال معلقاً على الأمر «الجيد أن هنالك رؤية وتخطيطا مستقبليا لدى المحلية واتمنى ان يكون نتاجا لقناعات لدى مواطن المحلية او مجلس المحلية والهيئات الشعبية، فالدولة لا تستطيع لوحدها ان تقوم بأي تنمية دون مساعدة المجتمع فالأمر يحتاج لعمل جماهيري سياسي واقتصادي وثقافي أما الدولة فليس بإمكانها أن تقوم بكل الأعمال».. وتابع شارحاً «معظم الأراضي بالخرطوم تمتلكها الحكومة.. يمكن أن تعمرها بما يتوافق معها ولكن هنالك عدد مقدر من الاراضي يمتلكها المواطنون.. وهنالك أهمية كبيرة للتشغيل (soft ware) وهذا التشغيل سيقوم به المجتمع وليس الدولة».
وتحدث شرف الدين عن جزئية اخرى قد تضعف التنفيذ «حسب تعبيره». قال«احدى الاشكالات ان المنطقة خالية من السكان وهذه أحد الأشياء التي تجعل نشاط المنطقة ضعيفا وساكناً في فترات الليل».. وتابع «يجب مراعاة ما يسمى بالعولمة التي تعني الاتصالات والتي جعلت أنه ليس بالضرورة وجود مركز مهيمن بمعنى امكانية التعامل مع بنك في مدينة الرياض من داخل الخرطوم وبدلاً من الحضور لوسط الخرطوم للتنزه يمكن الذهاب الى حديقة بأركويت «مثلاً».. إضافة إلى نقل العديد من الأنشطة إلى داخل الأحياء فاللامركزية أصبحت نمط الادارة الحديثة في الأحياء وظهور بعض الاسواق مثل ليبيا والسوق الشعبي بام درمان تعد أكبر أسواق الملابس والأقمشة».. واتفق مع من سبقوه في أن الأمن أحد العقبات وقال «ما زالت الناحية الامنية تحديا يجب تجاوزه»
وعلى ذكر العقبات والاشكالات كان لا بد من الاشارة الى مشكلتين يعاني منهما وسط الخرطوم وامكانية التوصل لحلول لهما وهما الصرف الصحي والشوارع والمجاري فوسط الخرطوم اعتاد ولفترات طويلة ان «يغرق في شبر موية» كما يقولون.. سالت شرف الدين عن المشكلتين فقال «لا بد من تغيير نظام الصرف الصحي ليتماشي مع التكنولوجيا الحديثة». واضاف شارحاً الأمر «قمنا بعمل تجربة بداخلية علي عبد الفتاح بإنشاء محطة داخل الداخلية وهي تعمل الآن بصورة جيدة دون روائح أو اشكالات صحية ونفس الشيء يمكن أن تطبقه المحلية «عمل محطة لكل منطقة علي حدّاً» والإستفادة من المياه المعالجة في ري المسطحات الخضراء.. فالصرف الصحي هو الذي قد يحدث الطفرة المطلوبة». وماذا عن الخريف والمصارف؟ أجاب شرف الدين بالقول «لا بد من إعادة النظر في الشوارع لتكون جزء من نظام تصريف المياه». وأضاف أن الامر قد يتم عن طريق تعليه الشوارع وسفلتتها بمستوى معين وان يكون للشوارع ميول والدولة الآن غنية بإمكانها فعل هذا الشيء».
وأشار شرف الدين إلى مشكلة الأنقاض التي يعاني منها وسط الخرطوم، وقال «رفعنا انقاضاً عن أحد الشوارع بوسط الخرطوم فوجدنا أسفلها شارع أسفلت.. وهو أمر شائع بوسط الخرطوم أن يترك الناس انقاض مبانيهم مما أدى إلى تغير مناسيب الشوارع».
اتفق الجميع على وجود اشكالات وربما معوقات.. سألت عباس عن الاشكالات الأمنية والتخوفات فقال «الخطة التي كشف عنها الكودة تستصحب معها عده خطط تحتوي على كل الاحتمالات وهي مسائل محسومة لدينا». وتابع «في ما يتعلّق بالشماسة فإن نسبتهم قلت وسط الخرطوم بنسبة كبيرة جداً وكانت تجمعهم مواقف المواصلات.. والمتسولون أيضاً أعدادهم أصبحت قليلة بالقرب من المسجد».
على الرغم من المعوقات التي ذكرها التجار والتي ربما توجد حتى في أذهان المواطنين وعلى الرغم من ما ذكره شرف الدين من تحديات فإنه يبدو متفائلاً حين يقول «ليس هنالك صعوبة في اعداد الخرطوم فهي مدينة حديثة النشأة بها خصائص موقع ممتازة شوارعها كبيرة ومتسعة تحتاج إلى تعمير وتشجير وهو أمر يحتاج إلى تمويل ولكنه غير مستحيل». ويضيف أن الخرطوم تحتاج لفك الطوق الذي يحيط بها «السكة حديد، الغابة» لسهولة الحركة فمداخلها محدودة.
إذاً مع وضع الجهات المعنية لكل المسائل في الحسبان.. ربما تصبح رؤية الخرطوم وهي تتحرّك ليلاً واقعاً قريباً.. عباس قال إن الأمر سيتم بأقرب فرصة فكل الأموال الموجودة الآن بالمحلية موجهة لتنمية وسط الخرطوم.. شرف الدين أكّد على نقاط مهمة لانجاح المشروع وهي فتح مجالات الاستثمار العقاري والسكني داخل المنطقة لضمان وجود سكان وحركة دائمة وإعادة تشكيل وظائف الخرطوم بحيث لا تكون موجودة بمناطق أخرى وهذا لن يتأتى إلا بسياسات وحركة مستمرة تجعل وسط الخرطوم أميز المناطق وأكثرها جاذبية.
الخرطوم بالليل.. التي شكلت وجدان الكثيرون.. ربما تطل برأسها من مرة أخرى. معلنة عن ليال ذات مضامنين مختلفة.. تواكب الواقع الجديد.. والجيل الجديد.. ولكن حتى تلك اللحظة تبقى أمام الجهات المعنية تحديات امنية واقتصادية وصحية… إلخ. ويبقى أمام وسط الخرطوم تحد في أن يكون جاذباً لمواطنها، الذي عرفت أقدامه أماكن أخرى أكثر أمناً وحركة وجاذبية.تحقيق: سلمي فتح الباب الصحافه
[/ALIGN]