كثيرون يظنون أن (الفن) هو مجرد مزمار يتلوى في حرم الخلاعة في أسوأ تقدير.. أو هدر في أسوار التسلية ومضيعة الوقت في أحسن تقدير.. لكن الناظر لتاريخ الأمم يدرك أن وراء كل أمة عظيمة.. فن عظيم..
ليلة أمس زرنا قرية (أبو حليمة) في الريف الشمالي للخرطوم بحري.. للاطمئنان على أحد أبدع رموز الفن السوداني.. الأستاذ الفنان النور الجيلاني.. الذي يعاني هذه الأيام من ابتلاء عصيب في حباله الصوتية.. نعمة الله التي كانت إسهامه الكبير في ترفيع الوجدان السوداني.. وما أقسى أن يجد الإنسان نفسه محروماً من سر قوته..
النور لازمه في الفترة الأخيرة توعك في حنجرته وكبت صوته فلا تخرج الأحرف والكلمات إلا همساً.
ولأن النور الجيلاني سليل أسرة معطرة بالدين فهو صابر على ما أصابه.. الذي يلاقيه لا يكاد يحس بوطأة الظرف الذي يحيط به.. لكن بالضرورة أشد ما يمكن أن يقتل القلب بمرارة الحرمان في مثل هذا الموقف.. أن لا يرى صدى إبداعه مرتداً عليه يواسيه ويقويه.. أن تغيب عن ناظريه تلك الجموع الممتدة التي طالما كانت تقف أمامه في المسارح وتصفق وتغني معه وتحمله فوق القلوب..
والي الخرطوم د. عبد الرحمن الخضر وقد كتبت ذلك مراراً- أجمل ما فيه.. نقطة ضعفه أمام (الإنسان)..لا يحتمل أن لا يفعل ما يظن أن فيه مصلحة الآخر.. حتى ولو كان الصنيع مجرد مواساة أو كلمة طيبة.. لا يستصغر من المعروف.. فهو يدرك أن إنسان السودان هو بالضبط ما رسمته لوحة شاعرنا الكبير إسماعيل حسن إذ قال:
بلادى أمان.. بلادى حنان وناسا حنان
يكفكفوا دمعة المفجوع
يحبوا الدار.. يموتوا عشان حقوق الجار
يخوضوا النار عشان فد دمعة
كيف الحال لو شافوها سايلة دموع
لذلك شرفنا بمرافقته في هذه الرحلة النبيلة لزيارة أحد رموز المجتمع السوداني..
محنة فناننا النور الجيلاني بعون الله سيتعافى منها.. هكذا يتوقع الأطباء.. لكنها تحتاج إلى مزيد من الرعاية الطبية.. التي نتمنى أن تتوافر له في أرقى المستشفيات العالمية.. وتلك ليست مهمة الدولة وحدها (رغم أنها قادرة عليها) لكن مشاركة المجتمع لها وقع آخر.. لأنها تمنح الإحساس النبيل برد الجميل لمن نثر الإبداع في ربوع وآذان السودان.. ليتنا بهذا نبتدر حملة عرفان عبر الفنان النور الجيلاني لتكون تكريماً لكل مبدع.. ففي بلادنا نهر من الإبداع وجحافل من المبدعين لكن بكل أسف.. هم في ضجيج الحياة تدهسهم خيول النسيان كلما خبا من السماء ضياء نجمهم.
نحن في حاجة ماسة لنحت المثال الصالح في ضمير أمتنا.. ولكن بكل أسف في أحيان كثيرة التواضع الذي يلتحف بثوبه العظماء.. يقتل الأنموذج ويحولهم لمجرد بشر يمشون في الأسواق ويأكلون الطعام.. بينما في كل الأمم المجيدة تحتفي الشعوب بمبدعيها.. وتوقد لهم شموع التبجيل حتى تسير على ضوئها الأجيال.
و(الرحلة طويلة.. مكتوبة عليّ وبمشيها…).
حديث المدينة – صحيفة اليوم التالي