الإدارة الأهليّة هي المظلّة الإجتماعيّة الأكثر إتّساعاً وإستصحاباً لمكوّنات المجتمع وهي أيضاً الوعاء الجامع الذي يمكن أن يستوعب الجميع ويقدّم خدمات وطنيّة ومجتمعيّة جليلة وفاعلة إذا ما تمّت إعادة الإعتبار إليها وترتيب أوضاعها وتقنين مشاركتها في الحراك والتفاعل الوطني من خلال دستور البلاد. وكذلك الإدارة الأهليّة هي الحاكميّة الشعبيّة عبرالتأريخ في السّودان والعالم من لدن سيدنا آدم عليه السّلام إلي الآن. وحتي يومنا هذا لها تأثير مباشر علي منسوبيها في كافة انحاء السودان. وقد خرج من الإدارة الأهليّة مع مرور الزمن وظهور المجتمع المدني الحديث الكثير من الملوك والرؤساء حسب الفلسفات الأرسطويّة والسقراطيّة. وقد كان في السودان سلطنات وممالك ومشيخات بداخلها العديد من الوظائف ذات الألقاب العامّة والدائريّة. ونجد في العالم الغربي حالياً مسميات مثل عمدة نيويورك وعمدة لندن مهما اختلفت الإختصاصات والأزمنة ودرجات الرقي والتحضّر.
الإدارة الأهليّة يمكن أن تلعب دوراً محورياً في تهيئة مناخ السلم الإجتماعي والمحافظة علي الأمن وصنع السّلام وإستدامته بإعتبارها صاحبة مصلحة حقيقيّة في نتائج السّلام المتمثّلة توفير بيئة مستقرّة تقوم عليها التنميّة ومتطلّبات تطوير المشروعات الإقتصادية والإجتماعيّة. يمكن للإدارة الأهلية أن تساعد في إقناع حاملي السّلاح من أبناء الوطن المعارضين للعودة والمشاركة في الحوار الوطني والمجتمعي الذي تبلورت فكرته وأشرف علي الإنطلاق. ويمكن أن تساهم الإدارة الأهلية في خلق علاقات خارجية جيدة مع مواطني دول الجوار من خلال التبادلات التجارية والإجتماعية التي تدور بين القبائل الحدودية المشتركة وغيرها.
تكاد الإدارة الأهلية تجسّد كافة تفاصيل الهويّة السودانيّة التي تشكّلت وترسّخت بين المكوّنات الإثنية الأفروعربية خلال السنوات الطويلة الممتدة منذ 1600م حتي 2011م (عام إنفصال دولة جنوب السُّودان) وحتي اليوم. وهي الهويّة التي تمثّل السودان الموحّد المشتمل علي تنوّع إثني وإجتماعي وثقافي وإقتصادي واسع وعريض صنعته أكثر من 500 قبيلة سودانية, وذلك في حدود جغرافية تمتد من البحر الأحمر شرقاً إلي الجنينة و”أديكون” غرباً. كما تمتد من قيسان في الجنوب الشرقي إلي كفياقنجي في الجنوب الغربي. وكذلك من حلايب في الشمال الشرقي مروراً بوادي حلفا حتي ميناء مليط البري في الشمال الغربي. إن القبائل المشار إليها أعلاه بمختلف عاداتها وتقاليدها المتنوعة وأعرافها الكريمة ومعتقداتها السمحاء تمثّل هوية السودان الذي يدين بالإسلام وبه الديانة المسيحية وغيرها من كريم المعتقدات و يتحدث باللغة العربية كلغة رسمية وبه لغات ولهجات محليّة أخري تعبّر عن طيف واسع من الثقافات والعادات والموروثات المحليّة.
في الختام نقول للمتحفّظين تجاه إعادة الإعتبار للإدارة الأهلية إمّا تفادياً لمسألة النعرات القبلية أو مناصرة للإدارة المدنية الحديثة المعتمدة علي الضباط الإداريين وغيرهم نقول لهم إن دور الأدارة الأهلية لم يمت تماماً برغم الوأد المتعمّد والتهميش الذي واجهته من السلطات الإستعمارية وبعض الحكومات الوطنية. فقد ظلّت باقية في نفوس جموع غفيرة من الناس ولكن مقعدها خالٍ في الحياة الرسمية. وهناك فرق شاسع بين القبيلة الربّانية التي ورد ذكرها في القرآن العظيم بقول ربنا تبارك وتعالي في محكم تنزيله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.) وبين “القبليّة” كنعرة نتنة تنتهج الإستعلاء العرقي وإستعباد وإستغلال النّاس. وقد حذّر رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلّم من النعرات القبلية وعواقبها الوخيمة. وللتمكّن من بناء مجتمع متماسك ماضٍ وحاضر ومستقبل لابد من إشراك كافة قوي المجتمع المدني بما فيها الإدارة الأهلية في كافة القضايا الوطنية والمجتمعية. ويمكن للإدارة الأهلية أن تشكّل إضافة نوعية لحياة الناس وتعايشهم المشترك في ظل مفهوم القبيلة الربّانية والحكم الرّاشد والعدالة الناجزة وهيبة الدولة. وبرغم الصراعات القبليّة التي برزت خلال السنوات الأخيرة ببعض المناطق مثل دارفور وخلفّت كثيرا من الخسائر في الأرواح والأشياء الماديّة إلّا أن تأريخ الإدارة الأهلية حافل بالكثير من أوجه الخير والحكمة والتراث والعادات والتقاليد السمحاء. نامل ان تتمكن مواعين الثقافة من فضائيات وإذاعات وصحافة ورقيّة وإلكترونيّة ومواقع تواصل إجتماعي وأنظمة أخري أخري مثل الواتساب والتويتر من المساهمة في التعريف بمحاسن الإدارة الأهليّة وأعرافها السمحاء.
إبراهيم عيسي البيقاوي