«أ»
كأن البرق الذي يتنزه مطمئناً في الأفق الشرقي الداكن، أخذ لمعانه العجيب من شهب الذكريات والماضي التي تناثرت شظاياها في النفس الملتاعة المشوقة المستهامة، ولم يكن العمر يومئذٍ إلا ضفافًا بلا نهر ونهرًا يجري بلا ضفاف أو نهاية، والحياة مركَبة تشق الغيب صوب مجاهل الغيب البعيد…
تنبع نافورة الضياء من تلك القلوب الصغيرة النقية مثل اللؤلؤة على ثبج البحر، وتأبى ينابيع الصفاء أن تلوث دفقها أصابع الرياح العابثات..
لا شيء نشتريه من متجر الغياب، ولا شيء نبيعه على رصيف الإياب… كل ما لدينا في تلك السنوات، مودة صادقة وبراءة تلوح في الأعين والألسن والوجوه، لا تخبئها الحظوظ والمطامع وما في النفس البشرية من مثالب… كل شيء كان كقطعة ثلج نزلت من السحاب.. والناس على مقربة من الكمال..أو هكذا نظن..
قبل أن تلوثنا المدينة وتنقر بمناقيرها الحادة اللزجة في أفئدتنا المنسوجة من رياش النور والصدق والنقاء، كان للحياة طعم لا مكان ولا مذاق له سوى في الأحلام والجنات الموعودة والخيال..
وكان الناس أشبه بتلك العصافير الرقيقة المحلقة ترف بأجنحتها مع الحمائم تسجع والخلائق تردد سجعهن… الشمس دافئة بضفائرها الممدودة من وراء السحب المتجهمة لا يعنيها أزمجر الرعد أم زأر.. وكأن الحب كان بدائياً بين الناس فهو قوي وجارف وعنيد وصبور وشاق… حيث كان بالفعل يعيش كل منا بكل حواسه الخمس، لم يسد السخام والقذى عينيه ولا الشمع أذنيه ولم تنبت في قلبه ألف نبتة سامة بشوكها الحاد، ولا تعرف يداه أنهما تلطختا بكل الخطايا التي نتنت على يديه وبدأت تفوح..
«ب»
على تلة زمنية من هضاب العام 1988م، شق بنا أرض الجزيرة في صباح خريفي من أيام سبتمبر لا أدري أي عينة من عينات المطر والخريف، بص لشركة «السفينة»، أيام صاحبها «محمد علي عبد الله ــ حموري »، أنا والأخ العزيز الأستاذ عبد الإله أبو سن، وكنا يومها صحافيين في صحيفة ألوان بكل صيت الثمانينيات واشتهارها العجيب في تلك الحقبة من خيبات الديمقراطية الثالثة، في طريقنا لمدينة القضارف موطن الأخ عبد الإله، وكم حببنا إليها حديثُه وأقاصيصُه وحكاياتُه التي لا تنقطع عنها وشعر البطانة ودوبيت البادية وهزيم الرعود..
الأرض ملأى في كل مكان على طول الطريق بمياه الخريف ولا تكاد ترى إلا شارع الأسفلت وسط برك المياه الممتدة كبحيرات مكسورة الموج والخاطر..
من نافذة البص كانت قرى الجزيرة تمر بسرعة كطيف لاهث، وزخات المطر على النوافذ الزجاجية تضيف للمشهد بُعداً سيريالياً شديد الغموض… اجتاحت الذاكرة وجرت على اللسان كلمات لمحمود درويش:
إلى أين أذهب؟
إن الجداول باقية في عروقي
وإن السنابل تنضج تحت ثيابي
وإنّ المنازل مهجورة في تجاعيد كفي
وإن السلاسل تلتفّ حول دمي
وليس الأمام أمامي
وليس الوراء ورائي
كأن يديك المكان الوحيد
كأن يديك بلد
آه من وطن في جسد!
«ت»
على طول الطريق.. الزمن يمشي على كف الوقت، وجليس بجانبنا يقرأ كتاباً لكلولون ويلسون، وآخر تضجر من صحف الخرطوم وعناوينها اللاهبة، لكن دمعتين ترقرقتا من عين طفل في المقعد جوار النافذة لم تتح فرصة للـتأمل لرجل يحكي أسفاره في مناطق الدالي والمزموم لجاره في البص الذي بدأ بدوره يركز وينصت في صمت القبور لملء فراغه العريض، بينما كانت طالبة جامعية تعبث أصابعها في قلق بمرجع ضخم أخرجته من حقيبتها، وغفا كثيرٌ من الركاب ونحن نتجاوز جبال الفاو، والأرض لبست ثوبها السندسي الأخضر على امتدادات البصر والطريق!
وضعت سماعات آلة تسجيل حيث كان صوت أم كلثوم عميقاً يمر كرهو الرياح والسحاب، وهي تغني «ألف ليلة وليلة»، ورفيق الرحلة عبد الإله أبوسن يطالع كتاباً للمفكر الإسلامي العراقي عماد الدين خليل.. وبين الفينة والأخرى يجبرني على نزع سماعة آلة الستجيل ليخبرني عن المناطق التي نمر بها مثل جبال «المقرح أب حراب طوال» والقدمبلية حتى لاحت صومعة القضارف الشامخة من بعيد.. وبدت ملامح المدينة تبين تحت قباب السحاب ولونها الرمادي والمطر يهطل غزيراً كدموع الحزانى…
لم يكن السوق الشعبي الحالي في القضارف قد تم تشييده وتخطيطه، كانت البصات السفرية تدخل قلب المدينة، وموقفها بالقرب من سينما كوكس، التي صارت سينما التعليم الشعبي، وقد تبرع الإغريقي الأصل السوداني الصميم كوكس لدعم التعليم الشعبي الذي ابتدره ورعاه الراحل الشيخ محمد حمد أب سن ناظر عموم الشكرية بالقضارف رحمه الله، وكان رجلاً يمثل بيت الحكمة ومقصد الضعيف وملجأ المحتاج، الكرم منه يبتدئ وعنده ينتهي، عميق الإيمان، عُرف بالتقى والورع وخلوص النوايا، وقال عنه الشاعر الكبير وأبرز شعراء الشكرية أحمد عوض الكريم أبو سن، يوم نعاه الناعي:
من ما شبّ عرضو وفرضو ما فكالن
مواعين الكرم تمتم عبارن وكالن
خلاويه المتل صوت الجراد عكالن
يكفيهن صوانياً بديع أشكالن
«ث»
نزلنا في قلب المدينة، وسرنا في طريق المطافئ نحو حي المفرقعات، كانت خطانا تتقارب في جوف الزمن من خطوات العمدة إبراهيم أبو عاقلة أبو سن مع صديقه الشيخ الجليل أحمد أوفاش أول عضو في جماعة الإخوان المسلمين في القضارف ومن مبايعي الإمام الشهيد حسن البنا في مصر، يترافق العمدة وأوفاش، إلى صالون شيخ العرب الناظر محمد حمد أبوسن … ولم يتلقط ذلك الزمان أقيم وأروع وأعمق وأصفى لحظات الإمتاع والمؤانسة بين رجال ذلك الزمن، بالرغم من أن البروفيسور أحمد إبراهيم أبو سن صهر شيخ العرب الكبير، له كتاب قيم «المؤانسة والإمتاع» جمع فيه الكثير من المآثر والحكايات والقصص والمرويات، لكن جلسات الصالون العتيق وسماره مضت مع الزمان كما مضوا..
عبرنا كبري خور أبو فارغة أهم معالم القضارف وهو مسيل ماء أهوج وهادر في الخريف، ووصلنا منزل الأخ عبد الإله في حي المفرقعات العريق، على مدخل الباب الرئيسي كانت هنالك مسرجتان تقليديتان معلقتان على جانبي الباب، وتدلت أغصان شجرة الجهنمية بورداتها الحمراوات، ووالدة الأخ عبد الإله المغفور لها بإذن الله تستقبلنا بحنو الأمهات وبقلب مفعم كبير كأنها ملاك بلا أجنحة..
«ج»
كانت البيوت السودانية خاصة في الولايات إلى وقت قريب حميمة ودافئة ومدهشة وأنيقة وبسيطة وجامعة، سرعان ما تجمع حولنا الأهل والجيران والأحباب من كل مكان، انشقت الأرض عنهم بلا مقدمات، وصالون الأخ عبد الإله الفسيح بملحقاته وفرنداته ويسميه أصدقاؤه «الورشة» حيث كانت تنطلق منه فعاليات النشاط الإسلامي والشبابي والثقافي ونقاشات وحوارات الفكر والسياسة والأدب والفلسفة، لديه مكتبه كبيرة مرتبة ومنظمة..
دخل علينا شاب غض الإهاب، شديد بياض الثياب والتهذيب، يعلو وجهه البشر والترحاب والحبور والمرح، كان خريجاً في مدخل الخدمة المصرفية، لا تزال مخائل الدراسية الجامعية في جمهورية مصر العربية وحكاياتها وقصصها بادية عليه، هو الأخ الحبيب هشام التهامي، نائب مدير بنك النيل الآن، سبقته سمعته النيرة إلينا وقصائد والده الشاعر الكبير وأحد رموز القضارف التهامي عبد الله سليمان..
أيام وليالٍ قضيناها مع هشام وعبد الإله ومجموعة طيبة من أبناء القضارف كانوا صغارًا من النابهين «الوزير السابق بالقضارف عمر كابو وطارق بابكر موسى وياسر يوسف أمين الإعلام الحالي بالمؤتمر والدبلوماسي إدريس محمد علي، والطيب محمد صديق وعبد الرحمن كبير والشهيد معتز محمد الحسن» تنسال فيها إشراقات الأفكار كذهب ذائب على إناء من لجين…
«ح»
للحياة معانٍ أخرى قد لا تراها العين المجردة، ربما يراها القلب وتبصرها البصيرة، في منزل الأخ هشام ووالدته الصالحة الكريمة فاطمة بت النور، رأيت معنى آخر للحياة، كان يأتينا ويوافينا عند هشام من جهة حي أبايو، رجل دقيق الجسم نحيله، لا هو بالطويل البائن الطول ولا بالقصير البائن القصر، لون بشرته أسمر مشرب بصفرة على خديه بانت شلوخه السلم، يرتدي زي المتصوفة الأخضر يجري على لسانه ذكر الله بلا توقف، قبس عرفاني يمشي على قدمين، هو شيخ محمد عثمان الشهير بـ «حديد كك كك» يجلس بعيدًا أو بالقرب من صديقه عبد الغفار عبد الله حماد خليفة، أو بالقرب من الرجل المصابر والمرابط والمجاهد أحمد سر الختم ود العيش وهو رجل شديد البساطة يحب الناس لم تغره الدنيا ولم تفتنه..
ينبعث فيها عبير وعبق صوفي في المكان ويقول صديق حميم، حيث تكون هذه الثلة من الناس، تحس بقيمة الشعور الإيماني العميق والارتقاء الصوفي الذي لا تحده حدود..
ومن معاني الحياة التي لا تجدها في الكتب ولا في قاعات الدرس ولا على يدي معلم وشيخ، تلك العبارات التي يطلقها الشيخ محمد عثمان حديد كك كك وهو أُسطى يصلح لديترات العربات في المنطقة الصناعية مطرقته هي مسبحته في أغلب الأحوال ويأكل من عمل يده.. كان ينظر عميقًا ولتظنه ينظر إلى اللاشيء.. ثم يقول قولاً تقشعر منه الجلود.. ويقول إن شبع البطن صدأ لنور القلب… وتطفر دمعة من عينيه العميقتين…
«خ»
مساء الخميس الماضي، وقد احتشدت السنوات بالكثير من الأحداث والشخوص والوقائع من تلك الأيام الزاهية، عادت صور ومشاهد وذكريات، ومولانا محمد حمد أب سن رئيس القضاء بالبلاد، وأحد أنبل وأبرز أبناء القضارف، يستضيف مجموعة كبيرة من أبناء هذه المدينة الدافئة لتكريم ابنهم هشام التهامي، ليت السنوات تعود للوراء.. القلوب الصافية كاللؤلؤة على ثبج البحر ستظلل بلدنا وتنبض فيه.. ووقع خطواتنا على درب الزمن يشع كبرق الأفق الشرقي الداكن..
ثم نصمت مثل الشاعر اليمني د. عبد العزيز المقالح
تذبحني سيوف الصمت
تسقط الدماء في ظلي
أخرج شاهرًا حرفي
ممتطيًا صوتي،
أرفعُ حزن الأرض عن صدري
أصيح في موج الجموع
انطلقي
تألَّمي
تكلَّمي
تذبحني سيوف الصمت في الشفاه الصامتة.
[/JUSTIFY]
أما قبل – الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة