في منتصف النهار بالتحديد وصلنا وجهتنا لنستبين الأمر عن قرب؛ ولنقف عند الحقيقة في مسرحها، قبل أن تطأ قدماك المحل تتسلل إلى مسمعك جلبة غناء نسوة اجتمع كل رهط منهن على ظل شجرة (تاية) جمعن ما استطعن من فروع الأشجار وأقدمن على قلي وتسخين المخلفات، في المنطقة التي قلما تخطر على بال مسؤولين أو تصلها عربات الجهات الرقابية المسؤولة عن الصحة أو المستهلك، النساء يرقصن هنا ويغنين هناك وهن جذلات ويعملن وهن نشطات، لا كدر يعلو وجوههن ما دامت جركانات (الزيت) الذي جمعنه من مخلفات مصانع الصابون القريبة من معاملهن العشوائية تجلب لهن 100 جنيه سعرا للجركانة الواحدة.. إذا، هن في مهمة عمل من نوع خاص.
* ناس المصانع ما بشغلونا
أصحاب (بكاسي) و(ركشات) و(عجلات) حتى، يأتون إلى المعامل العشوائية لشراء الزيت (المضروب)، دنوت وأنا غير مصدق ما أرى أن عشرات النساء ينتشرن في الخلاء الفسيح ومعهن رجال وأطفال (مع قلتهم) يعبئون بقايا المصانع بعد أن تصير في شكل زيت بعد القلي والتسخين، أدرت حواراً قصيراً مع خمسينية تشتغل لوحدها متخذة (كورية) تعبئ بها (الجركانة) قبل أن تذهب بها لمحلات القلي:
ـ سلامات يا حاجة، أخبارك؟
ـ مرحب السلام.
ـ الزيت بوتدوه وين..
ردت: يا ولدي أول مرة نجي هنا قالوا في ناس بجوا بشتروا مننا (الجركانة) بي 100 جنيه.
قلت: طيب يا حاجة الزيت البتبيعي فيهو دا ما بأثر عليك في يديك؟
ردت: والله هسي بحرقني لكن نعمل شنو؟ نحن ناس غلبانين وفقرانين وناس المصانع ما بشغلونا لأنو ما عندنا شهادات.
* زيوت للطلاء والدباغة
أما الشابات في ذات المحلات فيعمدن إلى الإجابات المقتضبة والمضللة في بعض الأحيان، ولديهن استعداد للاشتباك معنا في حالة أكثرنا عليهن الأسئلة.. لقد حاولنا التقرب منهن أكثر، لكن لا بأس من الاقتراب منهن ما دمن يجبن ولكن في اقتضاب ردت أكثر من واحدة منهن، بأن هذه الزيوت ليس مقصودا بيعها كزيوت طعام وإنما يبعنها لمصانع دباغة جلود قريبة من معاملهن.. وأخريات نسجن إجابات من شاكلة أن (جركانات) الزيوت هذه يشتريها عمال الطلاء والزينة.
عبث بأرواح المواطنين
تركنا أصحاب المعمل العشوائي وفي أذهاننا استفهامات مرهقة ومحزنة من شاكلة: لماذا غابت الرقابة؟ وهل من شكوى على الأقل عن هذا التعدي البيئي والعبث بأرواح وصحة المواطن؟ مع أن اشتغال أولئك في قلي الصودا ومخلفات المصانع وزيوتها ينطوي على مخاطر صحية حتى على من يمتهن هذه الحرفة.
أهالي السمير المحطة الذين تضرر منهم العشرات نتيجة الزيوت المعالجة من مخلفات المصانع المجاورة والتي باعها أصحاب الضمائر الخربة للمواطنين بعد خلطها بزيوت طعام، تحركوا حيال هذه المشكلة وحاولوا أن يصلوا إلى السلطات لينقلوا لها حجم المشكل.
* حملات اللجنة الشعبية والشرطة
(محمد عبد الله) رئيس اللجنة الشعبية بالسمير المحطة في حديثه لـ(اليوم التالي) أبان أن “الزيوت المضروبة وصلت إلى البيوت وفي المتاجر واتصلنا بالشرطة وقمنا سويا معها بعمل حملة تفتيش وجدنا قرابة الـ10 (جركانات) وهي في قبضتنا والبعض أخفاها للحيلولة دون الوصول إليه وتباع الزيوت المضروبة في أسواق جنوب الخرطوم”.
وأخطر ما في القضية أن مخلفات المصانع الملقاة في العراء والتي يعاد تصنيعها بصورة بدائية كزيوت طعام تعرض للقلي في النار، بعد أن أبلغ شهود عيان (اليوم التالي) إضافة ملح ومياه صرف صحي تغير من لون تلك المواد الكيميائية وتجعلها مشابهة لزيت الطعام تماماً في طعمها. مع أن البعض من النسوة (البسيطات خاصة) يعتقدن أن قلي المخلفات يجعها لا تضر أو أن الناتج من الزيت لا يضر هو الآخر، ما دامن عرضنها للنار ويرددن (ما في سماً عقب النار).
* كيف اُكتشفت الزيوت المضروبة؟
في السمير المحطة عاش الأهالي الأيام الفائتة رعبا وقلقا متصلين بشأن حالات تسمم مفاجئة أصابت العشرات من المواطنين؛ المؤكد لدى الأهالي وقتها أن الزيوت المصنعة في العراء من بقايا الصودا ومخلفات المصانع بعد أن أضيفت لزيوت الطعام هي السبب؛ وما يؤكد صحة ما ذهب إليه أهل السمير تلك الرائحة المتغيرة لزيوت الطعام وهذا ما أكده المركز الصحي بالمنطقة ومستشفيات جنوب الخرطوم بأن الإصابات جاءت نتيجة تناول زيت طعام رديء ومغشوش.
* تلاميذ ضحايا زيوت الصودا
(مروان داود) مدير مدرسة المخضرم المختلطة قال لـ(اليوم التالي): “8 من تلاميذ المدرسة من بينهم 5 تلميذات أصيبوا بتسمم حاد نقلوا على إثره للمستشفى بعد أن تناولنا (بوش) صُبّ عيله الزيت المغشوش ومكث بعض التلاميذ أسبوعين حتى رجعت إليهم العافية”.
أما أستاذ (عامر إبراهيم) أحد الضحايا بـ(السمير) فأفاد (اليوم التالي) بأنه تسمم بعد أن تناول الزيت في وجبة وتماثل للشفاء بعد يومين، وصار يتوجس من كل زيت طعام في المحال التجارية والبقالات عطفاً على تجربته مع زيت الطعام المصنع ببقايا الصودا ومخلفات المصانع.
سرطانات وفشل كلوي
زيوت الطعام المغشوشة المخلوطة ببقايا مصانع الصابون والمحتوية على مواد كيميائية كـ(الصودا) هل من خطر؟ طرحت هذا التساؤل على دكتور (محمد الأمين) اختصاصي باطنية، فأكد بالقطع لـ (اليوم التالي) أن تناول زيوت الطعام المخلوطة بالصودا فيه مخاطر صحية كبيرة على من يتناول هذه المادة الحارقة، لكونها تؤدي لتقيحات في المعدة والجهاز الهضمي وتعمل على ترسيب الكالسيوم الذي له دور في تجلط الدم ويصيب من يتناوله بالتشنجات والإغماءات ويضيف محمد: “الأخطر في موضوع تناول (الصودا) هو الانسدادات التي تخلفها المادة في مجرى الجهاز البولي وهذا يعني أنه قد يحدث تنام للحصوات في الكلي وتختل وظائفها وربما يؤدي ذلك للفشل الكلوي”.
(عمران مبارك) الباحث في مجال الكيمياء بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا في حديثه لـ(اليوم التالي) أكد وجود مخاطر صحية على المشتغلين في تجميع مخلفات مصانع الصابون لوجود مواد كيميائية كثيرة ضارة من بينها (الصودا)، التي تحدث تشوهات وحروقا في طبقات الجلد السطحي لمن يعملون في هذه الصنعة وحتى للعاملين في المصانع الرسمية مع وجود (ستنادر) للسلامة، كما أن مباشرة العمل تنطوي على مخاطر لا يسلم العاملون منها، فما بالك بمواطنين لا يعرفون شيئا عن مخاطر الصودا على أجسادهم يعملون بصورة عشوائية فهم بالطبع في خطر عظيم.
تعدٍّ بيئي وفوضى غير محتملة
الجانب البيئي في القضية المختص بمعالجة المصانع لمخلفاتها ورميها المخلفات الضارة في العراء دون أن تكون هنالك نظم تخلص علمية وسلمية طرحنا ذلك الجانب على (عائدة عدلان) مهندس البيئة بالمجلس القومي للتنمية العمرانية، التي قالت لـ(اليوم التالي): “من واقع المخلفات الملقاة في العراء وعبث المواطنين بها بحجة إنتاج زيوت يتبين أن بعض المصانع في البلاد لا تتقيد باشتراطات السلامة البيئية والتي من بينها معالجة الصرف الصحي لمخلفات المصانع والتي تتم في الغالب عبر عمل بحيرات (Lakes) بعيدة عن مراكز السكن والمدن بعزل المخلفات الصلبة عن المخلفات السائلة كذلك ومعالجة هذه المخلفات بطرق معينة حتى لا تضر بالبيئة.
وما يحدث في مصانع الصابون التي أتاحت للبعض فرصة استغلال المخلفات لصنع زيوت الطعام لا يتضرر منها المشتغلون والمتناولون للزيوت فحسب وإنما هنالك ضرر بيئي عريض وكبير يحدث للبيئة من جراء هذا التعدي، فضلاً عن المخلفات الكيميائية للمصانع بما فيها الصودا التي تسبب أمراضا جلدية وسرطانات بسبب تركيبتها الضارة.
* غياب القوانين الرادعة
وتمضي عائدة في حديثها: “مازالت التعدي والفوضى البيئية في السودان قائمة لعدم وجود القانون الذي يحمي البيئة وغياب الرقابة، وعدم وجود ما يردع من التشريعات الخاصة بالقضايا البيئية وبسبب هذا التساهل يفاجأ الجميع في كل مرة بأخبار وحكاوي محزنة عن المخالفات والتعديات التي يتضرر منها المواطن والبيئة على السواء”
اليوم التالي
خ.ي