خبر .. وجبتو !!
طالعت أستطلاع خفيف الظل لـ (حكايات) عن موضوع نقل خبر الموت، فرغم أن فكرة الاستطلاع مبنية على فكرة تدعو للحزن، وهي أن تتخيل بأنك مكلف بتبليغ شخص ما خبر وفاة شخص عزيز عليه، إلا أن تناول الموضوع جاء خفيفا مرحا فدفع لخاطري بـ موقف مشابة ..
في عام برلمتنا جمع السكن بيني وبين ثلاثة برلومات، اثنتان من مدينة كوستي والثالثة من بنات ود مدني .. ورغم أننا كنا ندرس في كليات مختلفة إلا أن عروة البرلمة والغربة الوثقى ربطت بين أربعتنا برباط متين، فكنا نستعيض بالصداقة الحميمة التي جمعت بيننا عن دفء وحميمة تواصلنا مع أسرنا والتي كنا نفتقدها بشدة …
لم يلفت نظرنا حضور مجموعة كبيرة من طلاب كوستي في ذات مساء لزيارة رابعتنا والتي كانت تعاني من نزلة برد، عندما تركناها بالبيت وتوجهنا لـ دار اتحاد الطلاب السودانيين لحضور بعض الفعاليات، ولكن ما أن وصلنا لدار الاتحاد حتى ادركنا السبب وراء تلك الزيارة الجماعية التفقدية من الطلاب لرفيقتنا، حين فوجئنا بخبر فاجع عن وفاة والدها بكوستي .. أصابنا الحزن والرعب وعصفت بنا رياح البرلمة فانخرطنا في بكاء مرير لم تجد معه كل محاولات التحنيس، وقبل عودتنا للبيت طلب منا رئيس الاتحاد التكتم على الخبر وعدم اشعار صديقتنا بأي تغيير في تصرفاتنا حتى يكمل الاتحاد اجراءات سفرها للسودان في اليوم التالي.
عدنا للبيت وأمضينا ليلتنا كـ (ثنائي شمبات) بعد أن (قضينا ليلة ساهرة)، ولكن ليلتنا يومها كانت على العكس من ليلة الثنائي فهي لم تتضمن محاسن، بل كانت مليئة بالأوهام والأفكار السوداء .. تخيلنا فيها وفاة أهالينا واحدا واحدا، ثم جنح بنا الخيال أكثر فتراءى لنا أن أبائنا جميعا قد ماتوا و(أنو ناس الاتحاد ديل داسين مننا الموضوع على بال ما يسفرونا) .. وعندما فاض بنا كيل الدموع (استغفرنا) وتعاهدنا على أن (لو واحدة فينا تاني ابوها مات .. نكلما طوالي بدل ما تقعد في اضان طرش زي المسكينة صاحبتنا) والتي كانت تنام في الغرفة المجاورة ملء جفنيها عن شوارد أحزاننا بمصابها الأليم.
وفي صبيحة اليوم التالي اجتهدنا لجعل يومها كـ آخر يوم للمحكوم بالاعدام .. أمانيها أوامر وطلباتها مجابة قبل أن تنطقها، وهي في حيرة شديدة من حالة الحنان الدافق الذي اجتاحنا من (تالاها) .. وقبيل المغرب حضر رئيس الاتحاد في صحبة بعض الاعضاء وطلاب كوستي .. أصابنا حالة مستعصية من الكبكبة والرجفة عندما طلب منا مناداة رفيقتنا، حيث انفرد بها لبضع دقائق خلناها دهرا ونحن ننتظر في الخارج قبل أن تعود إلينا وهي صامتة واجمة شاحبة الوجه كشحوب الموتى .. أسرعت إلى سريرها وتمددت فيه بدون كلام ثم تغطت بالبطانية من رأسها حتى أغمص قدميها، اصبنا بالحيرة والارتباك من ردة فعلها خاصة عندما طُلب منا أن نسرع بتجهيزها لتلحق بالطائرة التي ستعود بها للسودان .. حاولنا وسط بحر دموعنا أن نجلسها لنهيئها للسفر ولكنها كانت تعود للرقاد وتغطية وجهها هربا منّا .. تلبست احدانا شخصية (د. حسبو) وقررت أن تعالج لجوء عقلها الباطن لمحاولة النوم هربا من الفاجعة، بصدمة المواجهة فأجلستها عنوة ثم سألتها بقوة:
انتي رئيس الاتحاد قال ليك شنو؟
فقالت بسرعة قبل ان ترقد وتتغطى ثانية: آآآي كلمني .. كلمني !
لم تيأس رفيقتنا بل اعادت سحب الغطاء عن وجهها وقالت بقسوة متعمدة:
مش قال ليك أبوك مات؟ .. قومي ألبسي عشان دايرين يسفروك السودان.
لكنها أصرت على اعادة تغطية وجهها مرة أخرى وهي تقول بنبرة تمزق نياط القلوب:
سمح .. بس كدي خلوني حبّة !
حُفرت تفاصيل تلك الحادثة والتي واجهتنا في بداية مشوارنا، على جدار الذاكرة لتأثيرها العميق علينا والتغيير الذي احدثته على نفوسنا وقلوبنا الغضة، وظلت كامنة في الدواخل حتى اخرجها استطلاع حكايات عن طريقة نقل خبر الوفاة .. فعندما سئل رئيس الاتحاد يومها عن كيفية نقله الخبر لرفيقتنا، حتى أصابها بتلك الصدمة العنيفة أجاب ببساطة:
سألتها في الأول وقلتا ليها .. انتي ابوك ده خليتيهو عيّان قبال تسافري وللا كده؟
فأجابته بذعر: ابدا والله .. ليه؟
فقال لها:
أصلو مات !!!
لطائف – صحيفة حكايات
munasalman2@yahoo.com