اعتدت منذ وقت الذهاب يوميا لمطعم أجنبي بالخرطوم لتناول وجبة الغداء، لا لترف واتساع يد بالمال ولكن لأن طاهي هذا المطعم يتقن الوجبات المنزوعة الدسم ويعرف كيف يطهو الخضار بلا لحم لمريض مثلي يتوقف علاجه على مدى التزامه بالطعام غير المولد للكسترول والرافع للضغط والصاعد بالسكري وضمن ما جذبني له هذا المطعم بيئته، فالمطعم مكيف تكييفا يشعل المسامات بالحيوية وترتاده أوجه جميلة من فصائل طيور الجنة ويتنهد بموسيقى حالمة تنسيك الفيضانات والقوات الدولية.
جلست في واحدة من طاولاته الأنيقة اتنسم التكييف الذي ينسي الوجوه التي تجعلك تحترق. وأنا بين النسيان والاحتراق جلس قبالتي رجل تجاوز الستين يرتسم على محياه الفقر الواضح سمة، والبائن بينونة كبرى. تفرس في الأسمال التي يرتديها ونعله الذي كان ذات يوم يحمل اللون الأسود لكنه اكتسب الآن لونا حياديا كلون هذه المرحلة . كان هذا الرجل مثل شامة سوداء أمام الأزياء الجميلة والأناقة الزائدة التي تزحم المطعم. صرفت النظر عنه فأنا هنا كي أنسى وليس كي أزيد وجعي.
بعد انتهاء الغداء سمعت الرجل يقول للجرسون: (والله معلم الله). وكان الجرسون الأجنبي يجد صعوبة في الفهم هذا (المصطلح) الذي يعني أن الرجل لا يملك مليما ليدفعه مقابل تناوله وجبة الغداء . قبل أن يستفحل الأمر قررت التدخل لفض النزاع بين الجرسون واستفدت من حالة الارتباك التي ظللت موقف الجرسون من عدم فهمة المباشر(لمعلم الله) هذا الترمنلوجي الذى بارح منذ السبعينات فقد كان مسرحه في ذلك الأوان البص، فكثيرا ما تسمع هذا التعبير من راكب للكمساري وكان الكمساري يقبل المصطلح فلا يطالب الراكب بدفع الأجرة.
لم أشأ أن أشرح للجرسون المعنى الحرفي لما ظل الرجل يردده له لأكثر من مرة لأنني كنت مدفوعا برغبة في ستر عورة أحد أفراد الشعب الجائعين وتلك مهمة وطنية وأخلاقية وطنية للدفاع عنهم ونعبر عن أمانيهم. طالبت الرجل بأن يسكت ونظرت في فاتورة الحساب التي تبلغ 50 الفا بالتمام. دفعت المبلغ للجرسون وأعطيته (بخشيشا) وخرجت بالرجل لخارج المطعم وجلسنا أمام(ست الشاي). ونحن نشرب الشاي وقف الرجل وأخذ يحك خصره، فلاحظت أنه يربط (لستك عجل جواني) بدلا من الحزام فاندهشت وصحت به:”إنت ياحاج موضوعك شنو؟”، فأخذ يضحك ويقول لي: “أنا زول فقران، بتعرف الفقران؟).
[/JUSTIFY]
أقاصى الدنيا – محمد محمد خير
صحيفة السوداني