وفي الفترة الآخيرة ، تسارعت حركة النشر والتأليف والانتاج الفكري للكتاب السودانيين ، داخل وخارج السودان ، وتحركت بوتيرة أسرع مما قبل ، لذا فإن أزمة النقد الآنفة الذكر واتهام الكتاب للنقاد بعدم القدرة على المواكبة وضعف المتابعة للمنشورات الجديدة ستظل قائمة ،بل إنها ستكون في تقديرنا أصعب من السابق ، ما لم يحدث العكس .
وهذه محاولة منا لعرض واحد من تلك المؤلفات التي صدرت خلال العام 2014م، وهو ديوان (دوحة العاشقين) للشاعرة السودانية آية أسامة وهبي ،الكتاب الذي صدر عن دار الأدهم للنشر والتوزيع بالقاهرة ، في طبعته الأولى 2014م وقد جاء المؤلَف في 126 صفحة ، من القطع الصغير ، واحتوى على عدد 33 قصيدة مختلفة الشكل والطول ، إذا أن بعض القصائد تألفت من بيتين فقط بينما البعض منها بدأ طويلاً ، والديوان يعتبر الثاني بالنسبة للشاعرة السودانية بعد ديوان “خيال” الذي صدر عن مؤسسة أروقة للنشر كما أن الشاعرة آية حازت على العديد من الجوائز الداخلية والخارجية والإقليمية في مجالات الشعر منها جائزة الشارقة للإبداع الكتابي.
قصائد الديوان تختلف في أفكارها ومضامينها وتتنوع ما بين العاطفي والوطني والاجتماعي وإن قد غلب عليها الشعر الروحي والصوفي ، وكما يقول سعيد يعقوب في مقدمته للديوان فان المسحة الصوفية الشفيفة والنزعة الروحانية والاشراقة الزهدية تتغلغل في معظم قصائد الديوان ، يبدو ذلك من عناوين القصائد التي تفصح عن نفسها لوحدها : (يا صاحب الهم، هدية الله ،يا منى النفس ،شيخ تائب ،مواساة ثكلى، في ذكرى بدر الكبرى،جنان الخلد )، وفي الشكل الشعري فالغالب هو الشعر العمودي (الكلاسيكي)، أيضاً هناك بعض القصائد التي جاءت في موضوعات أخرى كالرثاء ،وللشاعرة بالديوان أيضاً قصائد من الإخوانيات كقصيدة (براءة من براءة) التي هي رد على قصيدة أخرى للشاعر عبدالقادر الحبيب وقصيدة (الزمخشري).
والدفق الصوفي الروحاني أكثر ما يلفت ويغري بالتأمل ، فالشاعرة هائمة في حب المصطفى صلى الله عليه وسلم وتواقة لزيارته ،لا تفتأ حتى تصرح بهذا التوق في إحدى قصائدها فنسمعها :
وأزور روضته الشريفة بل
أرى قبر الحبيب عليه ثم أسلمُ
وتلتمس الهداية أيضا في نفس القصيدة:
يا رب ألهمني الهداية والتقى
من لي سواك إذا العرى تتفصم؟
وللعاطفة في ديوان (دوحة العاشقين ) حظها الكبير بالطبع ، وللعشق دوحته الظليلة فعلا كما أسمت الشاعرة ديوانها ، نرى ذلك في إحساسها العاطفي البازخ عندما تعبر عن عاطفتها الجياشة ودواخلها العاشقة ،فهي مسحورة بطبع الحبيب وماخوذة بكل شيء فيه حتى كلماته:
مسحورةٌ أنا بالحبيب وطبعه .. ماخوذة بجميل قول لسانه
وفي (قصيدة على الرغم مني ) تصف شاعرتنا قلبها المحب البريء باعترافها :
أرى لي قلبا نقيا شفيفا من الحب والخير قد صُورا
ولست بجاحدة للجميل ولا أترفع أن أشكرا
وفي (قصيدة أمر الهوى) ، نراها تسكر عشقا وتطرب هوى فتترنم وتترنح نشوانة:
طاوعت قلبي في هواك سقيته حلو الغرام فأسكرته مدامه
وتركته يهوى كما شاء الهوى ويدق ما شاءت له أنغامه
وفي النهاية تعترف بسرها المكتوم:
وأذيع سرا طالما أخفيته ..ماعدت قادرةً على كتمانه
أهواك بل أهوى عذابي فيك يا نور العيون ويافريد زمانه
وفي تقديري فإن جمال الإحساس وعنفوانه يتجلى عندما تطغى العاطفة على كل شيء فيكون لابد للقلب من مطاوعتها ، فنرى ذلك في قصيدتها (رغم أنفي) ، إذ تقول:
كن لي صديقا ..أو حبيبا أو أخا
فلأجل أن نبقى معاً
أرضى بما قد ليس يكفي
فأنا أحبك يا حبيبي رغم أنفي
والوطن حظي بالكثير من الدفق الإبداعي ، وهو عند الشاعرة آيه وهبي يستحق أكثر من الرجاء والإستجداء:
وطني فديتك قد أضر بي النوى
فامدد إليّ من الرضا قنديلا
كما أن الحب الذي هو في قلب كل منا مختلف عند الشاعرة آية وهبي،لأن قلبها موزع ما بين :
أحب تراب أرضي طين أرضي ..
أحب العيس في أهلي وداري
أحب أبي وأمي ثم أهلي ..
وإخواني وأصحابي وجاري
أحب الله خالق كل شيءٍ..
أحب الأنبياء وكل جارِ
على نهج الهوى في كل جيلٍ ..
وكل الصالحين ذوي الوقار
ولي في الحب آيات تسامت ..
أنال بهن عزي وافتخاري..
وديوان دوحة العاشقين حافل بكل مقومات الشعر الفصيح الجميل ، من سلاسة وجمال في الإسلوب ، وسلامة اللغة ، مع جزالة الألفاظ ، وتنوع التعابير والموضوعات ، وصدق الأحاسيس ،تحس فيه بمتعة الدفق الصوفي ونبل المشاعر والعاطفة، ويعتبر بحق من الدواوين الجديدة التي يمكن أن تمثل إضافة نوعية للمكتبة الشعرية السودانية والعربية ككل.
بقلم :محمد الخير حامد