تحركت الدولة بأجهزتها التنفيذية والتشريعية ممثلة في رئيس الجمهورية الذي طرح مبادرة الحوار الوطني، وهي تلبية لمطالب قوى سياسية ومجتمعية لأجل وضع ترياق وطني لأزمة البلاد السياسية والاقتصادية التي بدأت تولّد أزمات اجتماعية وثقافية وفكرية ما لم يُتدارك الأمر، وتوفر الدولة والحزب الحاكم إرادة سياسية حقيقية، وعزيمة مسؤولة ماضية للوصول لتسوية سياسية شاملة تحقق السلام الاجتماعي والاستقرار السياسي والإصلاح الاقتصادي، وتحقق العدالة الاجتماعية والعفو والمصالحة العامة بين أبناء الوطن جميعاً، ونستشرف عهد الجمهورية الثانية التي أعلنت عنها الدولة ـ أيضاً ـ عقب انفصال جنوب السودان في 9 يوليو 2011م، وما ترك ذلك من تحديات وأشواق.
دعوات رئيس الجمهورية التي جاءت تباعاً بداية من 27 يناير 2014م عندما قدّم مشروع الوثبة، مروراً بلقاء قاعة الصداقة الشهير في «6» أبريل الذي جمع أهل السودان يومها في صعيد واحد وحمل كثيراً من الآمال والأحلام، وفتح الشهية ولطف أغوار النفوس، وأكد أن أهل السودان قادرون على حل معضلاتهم بإرادة وطنية من الداخل لو قدّرت الدولة ذلك، ووفرت الثقة المناسبة التي تحفز للمشاركة غير المشروطة في بناء هرم الوطن الغالي، وتوجت تلك الدعوات المباركات بلقاء صباح الأحد الجميل «10» أغسطس تحت أجواء الخريف بعيداً عن صيف السياسة الساخن، عندما وجه السيد الرئيس دعوة لقوى المجتمع التي تمثل شرائح الشعب السوداني المختلفة، وبهذه الدعوة التي جاءت في إطار الحوار المجتمعي يكون السيد رئيس الجمهورية قد وجه خطابات دعوات الحوار لكل أقطاب وأفراد الشعب السوداني تقريباً، وهذا الاتجاه يتسق مع شعار أن عام 2014م ينبغي أن يكون عاماً للسلام والوفاق الوطني، واختيار وسيلة الحوار لتحقيق إستراتيجية الدولة التي ارتكزت على خمس كليات أساسية هي: تحقيق السلام، بناء الاقتصاد، إصلاح دولاب الحكم والإدارة، تثبيت أركان الهوية الجامعة، ووضع أُسس سليمة لعلاقاتنا الخارجية تقوم على التلاقي والتفاعل والتكامل والتعاون مع الآخر بسبل تحفظ للبلاد كرامتها واستقلال قرارها السياسي والاقتصادي، ويحفظ لها مكانة مرموقة في منظومة المجتمع الإقليمي والدولي.. مكانة مرموقة.. مؤثرة ومحترمة، وعلاقات خارجية تبرز وجه السودان المشرق في المحافل الدولية تعضدها رؤية سياسية كلية نابعة من ثوابت تلك الهوية والأعراف الراسخة لشعب السودان.
إن حراك الحوار الوطني الشامل عملية معقدة ليست سهلة المقاود والأجداف في ليلة وضحاها تصل إلى غاياتها، وإنما هي عملية فيها كثير من التحديات، وهنا يبرز دور الدولة لأنها الضامن الأول لصيرورة وديمومة الحوار، وذلك بما تملك من آليات وأدوات ووسائل، وهذا الشعب الذي عوَّد الدولة التفاعل في القضايا الوطنية في السلم والحرب عند الضيم يملك إرادة نافذة يحرس بها ثوابته الوطنية، ولذلك على الدولة ورئاسة الجمهورية أن تمضي قدماً في اتجاه تحديد نقاط الحوار الوطني، ولعل مجموعة الـ «14» التي تشمل الحكومة والمعارضة منوط بها أن تقدم مقترحات حول هذه النقطة، وعليها أن تدرك أنها الآن معقود على نواصيها خير أهل السودان، فلتعمل بجد وإخلاص ووفاء لهذا الوطن الجريح بفعل أبنائه أكثر من فعل أعدائه! وأن تستوعب استثنائية المرحلة، وضياع هذه الفرصة تنتج عنه مخاطر عظيمة.
إن فكرة الحوار المجتمعي تعني أن تشارك القوى المدنية في دعم الحوار.. دعم يقوم على مساندة أُطروحاته وتشكيل منابر ضغط للفرقاء والمترددين ليشاركوا، وينبغي أن تحاسب قوى المجتمع المتخاذلين عن مسيرة الحوار في الدولة والحزب الحاكم وقوى المعارضة، محاسبة عسيرة لئلا يحدث تواطؤ وتقصير نحو واجبات الوطن، لأنه آن الأوان للشعب أن يعزل وينهي مغامرة أي سياسي أو أي متمرد أو أي حاكم أو متقاعس يتاجر بقضايا الوطن في سوق النخاسة السياسي، وكذلك الذي يسوف أو يفسد أو يمزق عرى المجتمع أو يتجمد في موقف واحد إعلاءً لمصلحة شخصية أو حزبية أو جهوية ضيقة.
إن رئيس الجمهورية مازال يملك قوة تأييد مقدرة وهي الأعلى مقارنة بأية شخصيات وطنية أخرى، الأمر الذي يضع على عاتقه ووفقاً لأمانة التكليف أن يرعى الحوار والاتصال مع الآخرين بإرادة همها الأول تحقيق السلام والوفاق، ولعلنا نلمس تلك الروح لدى السيد رئيس الجمهورية، وينبغي أن يسري هذا الإحساس الوطني في أعماق طاقم الدولة كله.. إضافة إلى قيادة حزب المؤتمر الوطني الذي ينبغي أن يكون المبادر دائماً لتجاوز معضلات هذا الحوار من خلال خلق مركز ثقة لا يتزعزع، وهو المسؤول الأول أخلاقياً عن كل ما يدور في البلاد من تحديات، وهو الذي يملك نصيب الأسد في السلطة وآليات الدولة التي ينبغي أن تسخر لخدمة الأمة والشعب والبلاد لا لأهداف ضيقة.
خطاب الرئيس أمام قوى المجتمع نادى تلك القوى بصيغة السؤال منْ الأجدر منكم بفعل كذا.. وكذا؟ ليقين الرئيس بأثر هذه القوى، فنأمل أن تنطلق هذه الدعوة نحو الولايات والمحليات والقرى والفرقان في الحضر والبادية لتعميق هذه الرؤية المهمة وشرحها بما يكفي لتنزيلها وتطبيقها في إطار مجتمعي.. ربما تساءل البعض حول لماذا كان اللقاء سريعاً ومقتضباً ولم يسمع فيه لأصوات تلك القوى، لكن هذا ليس مشكلة، لأن حضور الرئيس مثَّل دفعة قوية لهذا اللقاء، وفي تقديري ليس مجدياً أن يستمع لكل فرد من قوى المجتمع بقدرما هو مهم أن يدرك كل فرد أهمية المشاركة في الحوار والتفاعل مع قضاياه، لتثبيت أرضية المصالحة الوطنية، وهذه هي الفكرة التي تمضي بمسيرة الحوار إلى الأمام وتعزز دعوة الرئيس لتحقيق الوفاق الوطني المرتقب.
صحيفة الانتباهة
ت.إ[/JUSTIFY]