مع أن الصحف اللبنانية كانت حاضرة في تلك الفترة في المكتبات ، إلا أن المجلات اللبنانية كانت لها الحظوة الاكبر لدى القاريء السوداني ونظرا للرواج الكبير الذي لاقته فقد تجاوزت تلك المجلات أرفف المكتبات لتباع على الأرصفة ونتيجة لذلك إرتفعت مبيعات تلك المجلات ، مما حدا بالمطابع اللبنانية أن تدفع بالمزيد من إنتاجها للخرطوم . عبر تلك المجلات إستطاع القاريء السوداني أن يقترب من تفاصيل المجتمع اللبناني ككل والبيروتي بشكل اخص وأن يلج عوالم بيروت السياسية والثقافية والفنية والإجتماعية ، بل وأن يتعرف كذلك على معالمها ، شوارعها وساحاتها . عبر مجلات كالـ (الحوادث) ، (الصياد) ، (الأسبوع العربي ) ، (كل شيء) ، (الموعد) وغيرها إستطعنا أن نقف على الكتابات السياسية لـ (سليم اللوزي) ، (نشأت التغلبي) ، (محمد جلال كشك) والكتابات الساخرة لـ (سعيد فريحه) والكتابات الأدبية لـ (أمل جراح) و(غاده السمّان) وعبرها كذلك دخلنا دهاليز السياسة فتعرفنا على سياسيين بارزين لهم باع طويل في عالم السياسة أمثال : (صائب سلام) ذو الحضور البارز والمميز بقرنفلته البيضاء ، (ريمون إده) المدافع عن الحريات العامة ، (رشيد كرامي) السياسي النبيل ، (سليم الحص) الأكاديمي والإقتصادي المعروف وغيرهم . كذلك إقتربنا من مساجلات النواب التي كانت تدور في البرلمان من أمثال : نجاح واكيم ، جوزف سكاف ، البير منصور وغيرهم . كانت بيروت حاضرة تماما في ناظرينا .
لم يقف الأمر عند السياسة فقد كان للفن حضورا أيضا فهناك المجلات الفنية التي كانت ترصد لنا الأحداث الفنية مثل الموعد لصاحبها (محمد بديع سربيه) والشبكه لصاحبها (جورج إبراهيم خوري) وإن بدت هذ الأخيرة أكثر تطرفا في سفورها ، إضافة إلى مجلة المنوعات (كل شيء) التي كانت تمزج ما بين الفني والإجتماعي والسياسي . عبر هذه المجلات وغيرها إستطعنا أن نتابع أخبار العمالقة (فيروز) والرحابنة ، (صباح) ، (وديع الصافي) ، (هيام يونس) . مع التفاصيل الدقيقة للنشاطات الفنية التي كانت ترصدها تلك المجلات بدأ وكأن الخيال قد إستبد بنا فتخيلنا أنفسنا نسعى إلى تلك المسارح في بيروت وغيرها لنسترق السمع إلى (عصام رجي) ، (سمير يزبك) ، (سميره توفيق) ثم لنصعد إلى (عاليه) لنشهد ليالي الصيف مع (حليم) و(فريد) ، ثم لنهبط السهل لنرتقي إلى (بحمدون) يشدنا إليها ذلك الصوت الرجولي لـ (فهد بلان) والمبدع(نصري شمس الدين) بينما صدى صوت المطربة (سلوى القطريب) يأتينا من بعيد من مسارح طرابلس ، قبل أن نصحو من هذا السرحان على وقع أقدام (كركلا) وهي تؤدي رقصاتها على أنغام الدبكة . نشاطات فنية كان لها زخمها الرائع في ذلك الوقت ، فيما كان للأغاني تميزها كونها إمتزجت بمواهب الملحنين البارزين أمثال (فيلمون وهبي) ، (حليم الرومي) والبارع على الكمان (عبود عبد العال) . لكن هل نبارح قبل أن نلقي نظرة على المســرح الممتليء حركة ونشاطا بمسرحيات (فيروز) ، (نضال الأشقر) ، (روجيه عساف) والكوميديان (علاء شوشو) .
كذلك كانت بيروت حاضرة عبر مناسباتها الإجتماعية وحفلات مراقصها التي جسّدها مجتمعها المخملي ، حفلات كانت مسارحها قاعات الفنادق في وسط بيروت وشارع الحمراء حيث حميمية العشاق لا تأبه بالغادي اوالرائح في ذلك الشارع وحيث جمال البيروتيات يأخذ بالألباب . لقد كان لبيروت ليلها وهمسها وسرها . لقد شكلت هذه المناسبات مادة دسمة للصحفيين والمصورين الذين كانوا ينقلون تفاصيلها على صفحات المجلات لا سيما كاميرا (دالاتي ونهرو) التي كانت توثّق تلك المناسبات وتنقل كل صغيرة وكبيرة . لقد كان كل شيء ينقل على المجلات اللبنانية بالقلم والصورة فتحس وكأنك تعايش الحدث لحظة بلحظة ، ثم دارت الأيام لتهب الرياح السوداء على بيروت وتحلق غربان الشؤم على المدينة لتستعر الحرب بين أبناء الشعب الواحد أو ما عرف بالحرب الأهلية إختلط فيها السياسي بالطائفي بالمذهبي وتراجع الدور الإشعاعي لبيروت من جراء هذه الحرب اللعينة وفي المقابل دارت الأيام على السودانيين وتكالبت عليهم المحن والإحن فلم يعد السوداني كالماضي شغوفا بالقراءة فقد تراجع إهتمامه بالكتاب ، المجلة ، أو الصحيفة فقد شغلته متاعب الحياة عن ذلك وأصبح همه مثل كثيرا من أخوانه في هذه المنطقة هو تأمين لقمة العيش لأهله وأسرته . لقد مرت مياه كثيرة تحت الجسر منذ ذلك الزمان وتبدلت الأحوال والظروف وكل الأمل أن تنهض مراكز الوعي والإشعاع مرة أخرى لتؤدي رسالتها رغم السحب السوداء ورغم الدماء التي تسربلت بها خارطة هذه المنطقة .
محمد السـيد علي