في أسواق بانغي، لا صوت يعلو فوق أصوات روّاده المتذمّرة من ارتفاع أسعار لحوم البقر “لم يعد بإمكاننا الحصول على الطعام عند الجوع في هذا البلد”.. بهذه اللكنة الحادّة والغاضبة، صرخت “دايو مارلين”، وهي من سكان العاصمة، ونظراتها تجوب كتل اللحم المرمية وراء إحدى واجهات محلّ بسوق بانغي المركزية..
وأضافت بذات الغضب “الكيلوغرام الواحد من اللحم الذي كان يعرض في السابق بألف فرنك أفريقي (2 دولار)، أصبحنا مجبرين على ابتياعه اليوم بثلاثة أضعاف ثمنه”.
سيدة أخرى، تدعى “روز مانديوب”، تمكّنت على ما يبدو من التعامل مع النقص الحاصل على مستوى لحوم البقر بطريقتها الخاصة، مشيرة للأناضول إلى أنّ “البديل يكمن في تغيير العادات الغذائية”.
وقدّمت السيدة الوصفة التي تتبعها لرأب النقص الحاصل في مطبخها بسبب غياب لحم البقر قائلة: “إليكم ما قمت به لمواجهة الأمر: أكثرت من الخضر والسمك والدجاج المجمّد.. فالمهمّ، في النهاية، هو أن يحصل الأطفال على وجبات في موعدها”.
واتخذت مسألة نقص لحوم البقر من أسواق افريقيا الوسطى بشكل عام، ومن بانغي على وجه الخصوص، أبعادا مثيرة للقلق في الآونة الأخيرة.
وفي تصريح للأناضول، لم يخف الدكتور “باتريك نينغاتا دجيدا”، المدير العام لـ “شركة إدارة المسالخ” بأفريقيا الوسطى (حكومية)، قلقه حيال أزمة اللحوم التي تشهدها بانغي في الفترة الأخيرة، حيث قال “نواجه خطر فقدان المصدر الرئيسي للبروتين الحيواني بشكل دائم، في صورة لم نتمكّن من إقرار المصالحة”.
الإحصاءات هي الأخرى غير مطمئنة بالمرّة.. الدكتور “دجيدا” أشار في هذا السياق إلى أنّ “مستوى الذبح بشركة إدارة المسالخ شهد تراجعا مخيفا منذ الخامس من ديسمبر/ كانون الأوّل 2013 (تاريخ اندلاع الأزمة السياسية في البلاد، قبل أن تتحوّل إلى صراع طائفي). وعلى سبيل المثال، فقد تراجع متوسط الاستهلاك اليومي والذي يناهز الـ 200 ثور، إلى 25 ثورا فقط في الوقت الراهن، وهذا ما يشكّل عجزا خطيرا على مستوى الإستهلاك”.
أسباب النقص في لحوم البقر تجد جذورها في النزاع الطائفي الذي يهز أفريقيا الوسطى منذ فترة، فهذا القطاع كان وما يزال حكرا على قبائل “مبورورو” المنحدرة من شعوب الفولاني المسلمة (شعوب تقطن مواطن عديدة في غرب ووسط أفريقيا والساحل الأفريقي).. وإلى وقت قريب، كان القطاع يضم حوالي 4 مليون رأس من الماشية (البقر)، غير أنّها ظلّت جميعها خاضعة لنفوذ الرعاة الفولانيين، وهو ما جعل سوق اللحوم في أفريقيا الوسطى تغرق في عجز متواتر بمجرّد اندلاع الأزمة واستهداف الرعاة المسلمين في إطار التناحر الطائفي الذي تعيشه البلاد.
في “بوالي”، “يالوكيه” و”بوسيمبيلي” بمنطقة الـ “بي. كا 13″، وفي العديد من المناطق الأخرى، تعرّضت مخيّمات الرعاة من شعوب الفولاني إلى هجمات نسبت إلى ميليشيات أنتي بالاكا المسيحية، قامت، خلالها، بقتل أصحابها وإحراق الأكواخ وإهلاك الماشية.
فكان على الألف و300 فولانيا الناجين من بطش أنتي بالاكا التوجّه نحو مدن “بامباري” (وسط شرق)، “كابو” و”سيدو” (شمال)، في إطار عمليات التجميع التي أطلقتها السلطات في افريقيا الوسطى.. رحلة هؤلاء الرعاة كانت هذه المرة دون قطعانهم، فلقد تم تسويق لحوم البقر التي استولت عليها عناصر الميليشيات المسيحية، على شكل لحم مدخّن، يعرف محليا باسم “شارموتا”.
وبالإضافة إلى التناحر الطائفي، تستغلّ مجموعة من اللصوص المنتظمة في إطار شبكة لنهب الماشية، انهيار الوضع الأمني في البلاد، لمطاردة الرعاة أينما حلّوا، فكان أن تفاقمت ظاهرة الذبح غير المقنّن بشكل ملحوظ.
وأعرب “دجيدا” عن أسفه الشديد لـ “تزوّد الأسواق اليوم من المنتجات غير القانونية”، في إشارة إلى لحم البقر المسروق أو المذبوح بطرق غير مشروعة، داعيا “جميع الجزارين إلى احترام القواعد الأساسية للنظافة، لتوفير منتجات صحية للمستهلكين”.
وفي استجابة طبيعية لتدهور الوضع الأمني، فضّل العديد من أفراد قبائل “مبورورو” ممّن يمتهنون رعي الماشية، مغادرة البلاد رفقة ما تبقى من قطعانهم، باحثين عن ملجأ آمن في دول الجوار، خصوصا في ظلّ غياب كامل للتجمّعات الراعية لمصالح الرعاة في افريقيا الوسطى، وهي عبارة عن وحدات لتنمية قطاع الرعي.
وبمغادرة الرعاة، سرت فوضى عارمة صلب المنظمات ذات الصلة بقطاع اللحوم في البلاد، من ذلك “المنظمة الوطنية للجزارين بأفريقيا الوسطى” (مستقلة)، و”اتحاد جزاري أفريقيا الوسطى” (مستقلة).
وفي تصريح للأناضول، قال رئيس “المنظمة الوطنية للجزارين بأفريقيا الوسطى” “بول بال” “لا أحد من الـ 4 آلاف و500 جزار المنخرطين صلب المنظمة، بالإضافة إلى الـ 9 آلاف من مساعديهم، قادر اليوم على المشاركة في أنشطتنا”.
ومن أجل تجنب الانهيار التام لإمدادات مدينة بانغي بلحوم البقر، اتخذت الوزارة المكلفة بالإشراف على قطاع الماشية، مبادرة تقضي بتمكين تجار الماشية والعدد الضئيل الذي ما يزال متبقيا من فرص ملاقاة الرعاة.
وقال “دجيدا” إنّ عواقب هذا النقص وخيمة بالنسبة للسكان، والتي “تكافح اليوم من أجل الحصول على البروتين الحيواني البقري، بما أنّ أسعار اللحوم ارتفعت بنسبة 200 %”.
“دجيدا ختم حديثه مازحا “لقد أضحى لحم البقر من منتجات الترف”.
وأطلقت حكومة أفريقيا الوسطى، بدعم من شركائها التنمويين، “برنامجا وطنيا للاستثمار الزراعي والأمن الغذائي والتغذية”، بهدف تعزيز التنوع في قطاع تربية الماشية، وتشجيع ظهور فئة من الرعاة المستقرّين الناشطين في مجال تربية المواشي الحديثة.
قرار يرمي إلى انتشال السوق المحلية من العجز الذي تعانيه جراء نقص لحوم البقر، بعد أن غادر السواد الأعظم من الرعاة الفولانيين أراضي افريقيا الوسطى نحو الدول المجاورة، هربا من التناحر الطائفي الذي يستهدف المسلمين في افريقيا الوسطى.
[/JUSTIFY]
م.ت