الحمدلله الذي هيأ لنا أوضاعاً مريحة في معركتنا الماضية مع هوج السيول الأمطار السنويّة وذلك بأن جعل عاصمتنا تحتضن نيلين عزيزين ونهر عظيم. النيلين الأبيض والأزرق ونهر النيل. فنحن بحمدالله نكاد نكون “أولاد موية” ولا ينبغي للموية أن “تموصنا”و اللهمّ الّا إذا صدق فينا المثل “البحر يأكل عوّامو”. المفارقة الكبري هي أننا نعاني من العطش في الصيف في الأرياف وحتي في المدينة وحينما تحن علينا السماء وينهمر منها الماء مدراراً في فصل الخريف تسارع السيول إلي مدننا وقرانا لتلطم خدودها وتُلَطِّشها وتصرعها بدلاً من أن تلثمها حبّا وإشتياقاً فما العمل؟.
شكراً لسيل “العَرِم” الذي إجتاح بعض المناطق بولاية الخرطوم- بأم درمان: الصالحة “خور القيعة” و”خور أبوعنجة” ومناطق محلية كرري ومناطق بحري والولايات الأخري. فقد أظهر مناسيب جديدة لم تكن معلومة في السنوات السابقة بالتأكيد وذلك لأن أحد أسباب إرتفاع هذه المناسيب هو شوراع الأسفلت الجديدة التي حبست وراءها كميات مهولة من المياه وجدت طريقها بسهولة إلي داخل المنازل والبيانات فأحاطت بها إحاطة السوار بالمعصم فنحرت بعضها وأكلت الباقي أكل الجوعان لل “البسكويت” فجعلتها كعصفٍ مأكول. لاشك أن شارع “الظلط” أو الأسفلت نعمة كُبْرَي ولكنها بدون كباري نِغمةٌ كُبري كذلك.
لقد ذهبت بي الأيام إلي فينيسيا تلكم المدينة الساحرة إبّان رحلتي إلي إيطاليا برفقة أستاذي الدكتور عزالدين كامل أمين المدير العام السابق للهيئة القومية للإتصالات في التسعينات من القرن العشرين في رحلة البحث عن مورّد جيّد لتقنية الموبايل ال (GSM) التي يتمتع بها اليوم مشتركو زين السودان ومستثمروها. وجدنا البنايات في فينيسيا قائمة داخل اليَم (جوه الموية عديل كدا) ولديهم ما يعرف بتاكسي الماء أو الووتر تاكسي (Water-Taxi) يأخذك من أمام نزلك أو متجرك أو مولك ويذهب بك إلي حيث يشاء الله وتشاء. فينيسيا مدينة ساحرة ولكنّي لا ادري الكثير عنها. وكذلك شاهدت سيطرة الجهات المعنية في دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة علي شواطي البحر والتخطيط لإنشاء عقارات مثل مجمع النخيل داخل “موية البحر”. وللسودانيين إنجازات واضحة معترف بها بدولة الإمارات الشقيقة خصوصاً في المجال الإداري المرتبط بتهيئىة وتنظيم المدن السكنية.
لذلك كلّه يتوجب علينا أن نشمر عن سواعد الجد ونرسم خطط إستراتيجية طويلة المدي تستصحب معها كافة المناوشات السابقة التي قامت بها السيول خلال السنوات الماضية ويتم فيها الإعتراف التّام بالدروب القديمة التي كانت تسير بها السيول إلي مصباتها والعمل علي تشييد ممرّات تحت المدينة وتحت المنازل تجسّد هذا الإعتراف. فكما جاء في المثل الدارفوري (بُوبَاي سلطان دَرِب دُود دَرِب وادي الله والنَبِي كّسْكِسْ منّو غادي) وهذا يعني ان الوادي سيعود إلي دربه حتي ولو بعد 100 عام او أكثر.
علينا أن ننفذ استراتيجيتنا خارج أسوار المدينة بمطالعة السيّول ففي الخلاء خلف الأودية في إطار ما بات يعرف بمشاريع “حصاد المياه” لنلقي القبض علي جميع السيّول ونلوي يدها وندخلها إلي الحفائر لكيما نشرب مياهها في الصيف نحن وزراعتنا وبهائمنا بدلاً من تبتلعنا في الخريف. ولا نستثني من عملية الحصاد الجامع هذه إلّا صغار السيول التي يمكن تذهب إلا المدائن لتغسل وجهها وتثبّت ترابها وتنعش جوّها وكما يقولون “تدّيها تمطيرة تدّيك طراوة”.
علينا أن نقوم بتوسعة عرض الخير الرئيسية داخل المدن مع العمل علي تشييد الشواطيء بالمواد الثابتة المسلحة حتي لا يتمكن أي خور من الخروج عن حدوده المخططة له. وعلينا مساعدة المواطنين وتوعيتهم بضرورة الإبتعاد عن مجاري الاودية والخيران وضرورة التشييد بالمواد الثابتة ما أمكن لهم ذلك. فمثلاً أن يبني المواطن غرفة واحدة علي الأقل في داره أفضل من تشييد خمسة غرف بالمواد الأولية وهذا أجدي بالنسبة له حتي من الناحية الإقتصادية. وإذا كانت الظروف المالية لا تساعد فهناك مواد أولية اكثر اماناً في مقاومة المطر مثل “القطاطي” أو الأكواخ المبنية من “القش” أو سيقان النبات وهناك المشمعات وهكذا وقد لاحظت بمناطق السودان المطيرة أن المواطنين قد ابتكروا أنماط معينة من المباني – كما في القضارف – لها قدرة جيّدة علي التعايش مع الامطار والسيول.
الأمطار تأتي إلينا كل عام والسيول تزورنا في بعض الأعوام وكما يقول أهل التخصص في الأرصاد الجويّة في تنبؤاتهم أن الهضبة الأثيوبية قد شهدت خلال الأيام الماضية أمطاراً لم تشهد مثلها إلّا قبل مائة عام وأنه يتوقّع هطول الأمطار بالسودان بغزارة حتي يوم 10 أغسطس 2014م فإن صح هذا الخبر فإن جميع ساكني ضفاف النيل الأزرق وإمتداده في نهر النيل وجميع الأنهار كنهر عطبرة وستيت والخيران الأخري الهابطة من الهضبة الأثيوبية علي الساكنين بهذه الضفاف رفع درجة الحذر والإنتباه والإستفادة من وسائل الإتصالات في تحذير المواطنين من تدافع أي سيول أو فياضانات نحو مناطقهم. ولو صدق أهلنا أصحاب التنبؤات “الأهلية” والذين يعرفون “العِيَن” وتواريخها (النترة 11 اغسطس, الطرفة 24 اغسطس, الجبهة 6 سبتمبر, الزبرة 20 سبتمبر ,الصرف 3 اكتوبر ,الصرف ان صح سَرَف وان بطل غَرَف) فلنأخذ حذرنا والله المستعان.
في الختام لابد لنا من مواساة المواطنين الذين تضرروا من السيول والأمطار الأخيرة ونرجو من مؤسسات المجتمع المدني والاهل والجيران والأصدقاء والعشيرة أن يتقدموا قبل الدولة بالمساعدة لذويهم وأهاليهم ومواطنيهم – فالامر امر دين وإنسانية وحضارة. قال الشاعر “الناس بالناس في بدوٍ وحاضرة *** بعض لبعضٍ وإن لم يشعروا خدم”. ما جري لبعض الناس الذين تأثروا بكارثة السيول هو إبتلاء من الله سبحانه عليهم وعلينا مقابلته بالصبر الجميل والتضرُّع إلي الله العلي القدير ان يحيله من نقمة لنعمة وهو القادر علي ذلك إنه سميع مجيب.
أعدّه المهندس/ إبراهيم عيسي البيقاوي.