لم ينس إيمانويل كمبي وهو يشدو مشنفاً الآذان بأحلامه الكبيرة يقصها على مستمعيه بعد انتظار طال لأجيال وهو يغادر الخرطوم, ويحث مواطنيه “يلا أخير نرجع لبلدنا” أن يذكرنا أن الخرطوم المريضة بمرض غير معروف هي سبب ما حاق به وببني جلدته من أذى جعل حلم الاستقلال والرغبة العميقة والقوية في التحرر هي ملاذه لبناء وطن يليق بهم.
بالطبع “خرتوم عيّان .. عيّان ما معروف”, ليست هي الخرطوم المدينة ولا أهلها الذين استضافوا مواطنيهم الجنوبيين النازحين الهاربين من جحيم الحرب, صحيح استضافوهم في معسكرات طرفية وفي مناطق عشوائية لم توفر لهم من الأسباب الحياة الكريمة مما يستحقون, لكنها على الأقل ضمنت لهم الأمن من خوف الحرب وجحيمها, ولكن مع ذلك بقيت غضة في حلوقهم أن يجدوا أنفسهم في معسكرات عدّدها كمبي في أغنيته، واصفاً إياه بالغيتو مستلفاً في وصف غير منصف “معسكرات الاعتقال النازي”.
غنى إيمانويل مودعاً الخرطوم معسكراً معسكراً “كرتون كسلا باي باي.. تكامل باي باي.. جبرونا.. مايو باي باي.. خواجة دقس.. خلينا نرجع لبلدنا.. زقلونا باي باي.. سويتو.. مانديلا باي باي.. أخير نرجع لبلدنا.. إن شاء الله نبدأ في راكوبة.. بكرة نجيب طوب نبني قطية صُغير, صغيروقيافة.. بعد بكرة بيت كبير.. نو مور غيتو”.
لم يكن مرض الخرطوم الذي نعاه كمبي سوى مرض السياسة, وقلة حيلة الساسة وقصر نظرهم, وكذلك أنانيتهم التي عمتهم أن يروا على مدى عقود من الحكم الوطني إمكانية أن يستثمروا التنوع الفريد الذي يحظى به السودان والتعدد المتميز ليحولوه إلى مصدر للإثراء والإغناء وتقديم تجربة متقدمة في التعارف والتعاضد الإنساني وتجسيد آيات الله وحكمته في خلق الشعوب والقبائل, ليستبدلوها تحت رايات عهود الحكم الوطني المتعاقبة على اختلاف شعاراتها حرباً على الذات أفضت في نهاية المطاف إلى تقسيم الوطن وشرذمته, وأضحى السودان كالمنبت لا أظهر أبقى ولا أرض قطع, ذهب الجنوب وبقيت الجراثيم المسببة لمرض الساسة باقياً ليعاد إنتاجه في ما تبقى من سودان.
بيد أن أحلام كمبي الوردية التي غنى لها وطرب لها مواطنوه مع أهازيج الاستقلال سرعان ما تبددت هي الآخرى لأن جوبا أخذت العدوى من الخرطوم وهي ترحل جنوباً, فليست الخرطوم وحدها “عيّان” بل جوبا نفسها استحقت أن يغني لها إيمانويل “جوبا عيّان.. عيّان ما معروف” لأن داء الساسة واحد, لم ينسوا شيئاً ولم يتعلموا شيئاً نسخوا كل أدواء الفساد والفشل والقمع والحرب مع كل الذي يُفترض أن يكونوا تعلموه من “مرض” الخرطوم, فأحالوا أحلام مواطنيهم وتطلعاتهم إلى يباب بإعادة إنتاج الصراع العبثي على الحكم بين النخب المتعشطة للسيطرة على السلطة والثروة على أجساد وأشلاء ودماء غمار الناس.
خالد التجاني- صحيفة التغيير