مزمل أبو القاسم: عبقرية التشبيه عند الطيب

* فتنت به منذ بواكير الصبا وغصت في لجة (موسم الهجرة إلى الشمال، دومة ود حامد، ضو البيت، بندر شاه، عرس الزين ونخلة على الجدول) وقرأتها مراراً فما أشبعت نهمي من مفردته الجزلة وعوالمه السحرية.

* تنقل الطيب بمحبيه من أقاصي شمال السودان إلى بلاد تموت من البرد حيتانها من دون (بوينغ ولا آيربص).

* عبر القارات قبل اكتشاف الصواريخ.. وما أحوجنا إلى دخول سفارات للحصول على تأشيرات.

* ألغى الجنسيات والمسافات والحدود وتقاليد السياسة عندما ربط مصطفى سعيد القروي اليتيم بعوالم جين مورس السحرية.. كما ربط ضو البيت الخواجة صاحب العيون الخضراء بفاطمة بنت جبر الدار بعد أن قذفته مياه النيل على الضفاف على مرأى من حسب الرسول.. قادماً من المجهول.

* جاء مرتدياً ملابس الجندية.. مبتلاً وضائع الهوية، يهذي بما لا يعقل، فأسلم وحفظ سورة الضحى التي علمته إيهاها فاطمة بنت جبر الدار، فجعل ضادها دالاً، ثم تزوج وكدح وتزوج ليخلف أسطورة بندر شاه وحفيده مريود.

* عوالم الطيب صالح أكبر من أن تحيطها الكلمات.

* وصفها صعب لكن الغوص فيها يسير لأنها تربط الخيال بالواقع.. وتقرن المجهول بالمعلوم.

* امتلك الطيب صالح رحمة الله عليه قدرات مهولة في التشبيه.

* أتت تشبيهاته بسيطة وعفوية لكنها لم تخل من الروعة ودقة الوصف وعبقريته.

* وصف محجوب بنمرٍ هرم هزمته الضباع.. ثم أفاض في تفسير التشبيه.

* وشبه همهمته بكركرة البعير..

* تألق في وصف تفاصيل ليالي (ود حامد) حين قال: (الليل في ود حامد ثغاء شياه وبقرة أو ثور يخور.. وأصوات أشجار وصوت غناء في مذياع وفوج من صراخات تلتقي وتفترق في مكان ما.. في جهةٍ ما.. لا تدري هل هي أصوات مأتم أم عُرس.. لا تدري هل تجيء من قبلي أم من بحري.. ضوء السيارة يقترب ويعلو ويفوت.. مكنات الماء على الشاطئ ووشوشة هواء الليل الرطب على جريد النخل.. دكان سعيد كحاله وبقعة الرمل كحالها والليل والنجوم).

* وصف طريقة العلاج في القرية الوادعة على لسان (سعيد): ( كلو شربناه ما نفع.. بلدي وأفرنجي.. حقن بنسلين على فايتمين.. شربنا موية القرض والحرجل وقرشنا التوم والبصل وآخر الزمان كمان ناس قالوا تسوي الحنة.. وناس قالوا تقعد فوق الطلح.. يا زول الكلام على صحة الجسم الأولانية).

* توهج في وصف أوجه الشبه بين بندر شاه وحفيده مريود: (كان الحفيد في هيئته وسلوكه مطابقاً تماماً لجده كأنما الصانع العظيم صنعهما في وقتٍ واحد من طينةٍ واحدة وقدّم لأهل البلد بندر شاه ثم بعد خمسين أو ستين عاماً قدم لهم بندر شاه مرةً أخرى على هيئة مريود).

* وصف مريود الحفيد بأنه (لم يكن وقحاً.. لا.. ولكنه كان واثقاً من نفسه ثقةً تقرب من الوقاحة).

* تخيل مشهد الناظر مع سعيد البوم (الوسخان العفنان) حينما جرؤ على طلب يد بنته ليتزوجها.

* حتى المسميات.. أجاد نحتها بعبقرية قروي لم يفتنه صقيع الشمال البارد، فأطلق على شخوصه منها حسن تمساح.. الله لينا ود جبير الدار.. بخيت أبو البنات.. سليمان أكل النبق.. عبد المولى ود مفتاح الخزنة والكاشف ود رحمة الله.. (كل واحد فيهم اسمه لابس فيهو زي غمد السكين).

* شبه الأسماء بالجفير بما قل ودلّ فأجاد.

* وصف فروسية مختار ود حسب الرسول في البطان: (صبي عاجباهو نفسه.. يقف وسط الحلقة عاري الظهر يركز للمبارزة.. ظهره زي ظهر عجل البحر قدر ما تضرب فيه بالسوط ولا أثر).

* وصف حال الراوي وحزنه على موت حسنة بت محمود بلسان محجوب: (أصبحت عاشقا آخر الزمن. جننت مثل ود الريس.. المدارس والتعليم رهفت قلبك، تبكي كالنساء، وأما والله عجايب.. حب ومرض وبكاء، إنها لم تكن تساوي مليما، لولا الحياء ما كانت تستاهل الدفن، كنا نرميها في البحر، ونترك جثتها للصقور).

* وصف حال حمد ود حليمة بلسانه: (حسيت زي كان شيطان مارد في بطني بقى يتحرك ويكبر ويفرد جناحاته في العالم كله.. حسيت كأني جبار شمهورش إذا كان سقف السما وقع أسنده بإيدي.. الشطة أجارك الله).

* وصف محيميد بالمهزوم.. (هزمته الأيام وهزمته الحكومة).. ونعت سيف الدين بـ(المتأرجح بين الهدى والضلال).. وسعيد البوم بـ(قطب الرحى).. وسعيد القانوني بـ(ابن يومه).. ولخص حال الزمن الحاضر بلسان الطاهر ود الرواسي (انت تفتكر الحكاية بالكفاءة؟ الموضوع كلو أوانطة في أوانطة.. المهم تبقى فصيح لسان وقليل إحسان).

* عبقرية التشبيه عند الطيب صالح أكبر من أن تحيطها حروف لغة تتحول عند كاتبها إلى كاميرا.. ترصد الظلال وتحيط بالتفاصيل وترسم الشخوص فلا تخطئ حتى الظلال.
مزمل أبو القاسم– اليوم التالي

(من أرشيف الكاتب)

Exit mobile version