دولة صاعدة.. وتوجه صادق
تتحدث بيلاروسيا بلغة واضحة وهي تنظر لقضايا العالم المختلفة ولصلاتها مع إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، ولا تخطئ عين روح الاستقلال في القرار السياسي والاعتداد بالذات في الخطاب السياسي والتعاطي مع قضايا العالم المختلفة.
ولكونها من أكبر الدولة المنتجة للنفط والمصنعة للسلاح والآليات الثقيلة والصناعات الدقيقة والصناعة التحويلية، ونقطة التقاء قديم بين الغرب والشرق، اكتسبت هذه الدولة، التي يبلغ عدد سكانها تسعة ملايين نسمة، أهميتها في منظومة الدول المستقلة سابقاً، وداخل أوروبا وفي الأسرة الدولية. وتحافظ روسيا البيضاء على نظم صارمة في بناء نهضتها وتقدمها، فبالرغم من انفتاحها ونمو اقتصادها إلا أنها حافظت على أفضل ما كان في الحقبة السوفيتية، فالاقتصاد لا يزال بيد الدولة ولم تحل مؤسسات وشركات القطاع العام ولم تخضع لخدع الخصخصة التي تعاني منها كثير من البلدان التي رضخت للوصفات الصادرة من صندوق النقد والبنك الدوليين، واتبعت سبل النظام الرأسمالي المتعسف الذي يجعل المال دولة بين الشركات والقطاع الخاص الغني.
فمسار الاقتصاد لهذه الدولة في تقدم مطرد نسبة لقوة وفاعلية النظام الإداري للدولة وكفاءة مؤسساتها وتشريعاتها.. والنظام الرئاسي المعتمد في الدولة دورته الرئاسية سبع سنوات يتقاسم الرئيس السلطة مع البرلمان، ويوجد مجلس وزراء يقوده رئيس الوزراء خاضع لمحاسبة الجمعية الوطنية بغرفتيها مجلس النواب الذي يتكون من «110» من الأعضاء، ومجلس الجمهورية الذي يشبه مجلس الولايات عندنا يتكون من «64» عضواً..
وتوجد معارضة سياسية فاعلة تقودها بعض الأحزاب الفاعلة في الساحة السياسية، لكن الغريب أن الأحزاب السياسية تتخذ في تكوينها مسميات تبدو غير مألوفة مثل الحزب الزراعي البيلاروسي والحزب الرياضي، وتتشكل بعض الأحزاب من الجمعيات المهنية والتعاونيات الزراعية ومنظمات المجتمع المدني.
وتواجه بيلاروسيا تحديات كبيرة في سياساتها الخارجية، فعلاقاتها مع الدول الغربية مأزومة ومتوترة، وكانت تعاني مثل السودان من عقوبات اقتصادية ومؤامرات من واشنطون التي منعت عنها بعض التعاملات الاقتصادية وطبقت الدول الأوروبية حتى «2007م» عقوبات على كبار المسؤولين ومنهم رئيس الدولة، بمنعهم من السفر ثم ألغيت لاحقاً، وتدعم واشنطون بعض المنظمات غير الحكومية والتكوينات السياسية والحقوقية المعارضة للرئيس الإكسندر لوكاشينكو، ويوجد قانون يشبه القانون الذي أجازه الكونغرس الأمريكي عن السودان «قانون سلام السودان» الذي تمت بموجبه معاقبة بلادنا، قانون آخر أجازه الكونغرس يسمى «قانون ديمقراطية بيلاروسيا» وهدف هذا القانون معاقبة هذه الدولة الفتية ومنع تقدمها وازدهارها.
وتدار الدولة في تقسيمها الإداري عن طريق نظام المحافظات «أوبلاستات» وتنقسم إلى ست محافظات رئيسة، وأكثر من «40%» من مساحة البلاد تغطيها الغابات الكثيفة والأراضي الزراعية، وبها ثلاثة أنهر و«11.000 بحيرة»، وينعكس الغطاء النباتي والغابات والزراعة علي طبيعة الإنسان البيلاروسي ونمط الحياة، فمن أعظم الأوبرا والبالية في بيلاروسيا بالية «الغابة العذراء» لبوغاتيريوف الذي يعد من أكبر الملحنين في هذه البلاد.
وتعد العاصمة منسك والمدن المختلفة في بيلاروسيا برغم عراقتها من أحدث وأجمل المدن الأوروبية، فقد دعمت ألمانيا النازية معظم هذه المدن وحرقت خلال الحرب العالمية الثانية، وأعيد بناؤها وتخطيطها من جديد، وتعد العاصمة البيلاروسية من أكثر مدن العالم نظافة وتنظيماً وإنسياباً في حركة المرور، وتوجد بها الكثير من الميادين والحدائق العامة والساحات الفسيحة الضخمة والمباني الحديثة وقطارات الأنفاق وشبكات المواصلات.
لقاءات «الدعم» السريع
كما ذكرنا في الحلقة الماضية، فإن لقاءات الوفد السوداني مع المسؤولين البيلاروس اتسمت بالدفء والترحاب وإبداء الرغبة المشتركة في التعاون والحماس الكبير في بناء علاقة إستراتيجية في كل المجالات مع السودان.
ففي اليوم الثاني للزيارة تم لقاء مع وزير الصحة البيلاروسي الذي أعرب في بداية اللقاء عن استعداد بلاده للتعاون مع السودان في كل المجالات الطبية من العلاج والتأهيل والتدريب للكوادر العاملة في هذاالمجال، وفتح كل المؤسسات العلمية والمعامل للسودانيين، إضافة للمنح في الدراسات العليا، والتعاون في مجال صناعة وتجارة الدواء، ووجه الشركات البيلاروسية بالتعاون مع السودان، وعن العلاج قال إن الباب مفتوح لعلاج السودانيين في بيلاروسيا وسيعاملون معاملة طيبة مثل المواطن البيلاروسي.
ويوجد في بيلاروسيا «26» مصنعاً للدواء وفق المواصفات الأوروبية والعالمية تنتج «1200» صنف من الأدوية، وهذه المصانع على استعداد لتصدير أي نوع من الأدوية للسودان.
وقدم نائب رئيس المجلس الوطني لوزير الصحة، شرحاً وافياً للأوضاع الطبية والصحية ومعلومات كافية عن السودان وجغرافيته وسكانه وهياكل المؤسسات الصحية، والحاجة للتعاون المشترك في مجال الخدمات الطبية والدوائية والعلاجية. وخلص الاجتماع إلى توقيع مذكرة تفاهم شملت التدريب والتأهيل للكوادر الطبية السودانية مجاناً، ومنح الأطباء السودانيين منحاً دراسية في مختلف التخصصات، وربط المعامل للتحاليل في البلدين واستقبال المرضى السودانيين للعلاج مع تخفيضات بناء على توجيه الرئيس البيلاروسي، وشملت أيضاً توجيهات لشركات الدواء للتعامل مع السودان وتصدير الدواء، واتفق أن تتولى وزارة الصحة السودانية ووزارة الصحة البيلاروسية إعداد الاتفاقيات وتنفيذ العمل المشترك.
وتمت في نفس اليوم زيارة لمصنع باريسوفسكي وهو من أكبر المصانع الدوائية في بيلاروسيا، له أكثر من «200» منتج، وتأسس عام 1965م ويصدر لأكثر من «20» دولة حول العالم وكل أدويته حائزة على شهادة(GMB) وتم ترتيب واتفاق كامل على كيفية التعامل مع السودان، وحل كل العقبات التي اعترضت التعاملات في السابق
في وزارة الزراعة البيلاروسية وعقد الوفد لقاء مع وزير الزراعة وقيادات وزارته، استهل وزير الزراعة البيلاروسي حديثه بتأكيد الرغبة في بناء علاقة قوية ومتطورة وإستراتيجية مع السودان واستعدادهم لكل أنواع التعاون والتعامل، وطالب بزيارة القطاع الخاص السوداني العامل في مجال الزراعة للسودان للتعرف على الإنتاج الزراعي والدخول في شراكات للإنتاج الزراعي والحيواني ومنتجات الألبان وإنتاج وتصدير الغذاء.
وزير الزراعة الاتحادي إبراهيم محمود تحدث في اللقاء شارحاً التصور وأهداف الشراكة المطلوبة بين البلدين في المجال الزراعي وتمتين علاقة طويلة المدى في ظروف تزداد فيها الحاجة الدولية للغذاء، مع زيادة الطلب على الإنتاج الزراعي والغذائي مع تزايد النمو الحضري، وقال إن السودان بمساحته الهائلة ومصادر المياه ومخزونه الجوفي، مؤهل ليكون من أكبر مصادر الغذاء للعالم، واستعرض شراكات السودان في المجال الزراعي، وذكر لنظيره البيلاروسي أنه خلال الزيارة تم الجلوس مع الشركات المنتجة للآليات الزراعية والأسمدة والمبيدات والكيماويات والجرارات والسكر والقطن وإنتاج الحبوب ومحاصيل الوقود الحيوي وصناعة البذور، ومن خلال الشراكة الجديدة يمكن نقل الخبرة البيلاروسية للسودان وجعلها أكثر الشراكات حيوية وفاعلية في العالم وسد النقص في الغذاء والأعلاف وغيرها.
وزير الزراعة البيلاروسي أكد أهمية الشراكة الإستراتيجية في مجال الزراعة وإنتاج الغذاء خاصة الدواجن واللحوم والألبان ومشتقاتها، وأعلن عن استعداده لنقل الخبرة البيلاروسية والآليات والمعدات الزراعية والبذور المحسنة وتطوير نظم الري.
وتحدث في اللقاء د. عيسى بشرى عن الثروة الحيوانية السودانية، وأنها تقدر بـ «130» مليون رأس، وتناول د. حبيب أحمد مختوم في كلمته عن ضرورة التعاون المشترك لما في ذلك من فائدة ضخمة للبلدين، كما تحدث بروف فتحي خليفة رئيس مجلس إدارة البنك الزراعي. وتحدث صلاح حسن أحمد مدير عام البنك الزراعي عن أهمية التوسع في زراعة القمح بالسودان.
في نهاية اللقاء تم الاتفاق على مذكرة تفاهم تشمل مختلف المجالات في الزراعة ونقل التقانة وصناعة الغذاء والأعلاف وغيرها وتم التوقيع عليها.
وزار الوفد مجموعة شركات تعمل في مجال الأسمدة والمبيدات وتم الاتفاق معها على إقامة الشراكة المطلوبة خاصة شركة (BELNEFTKHIM) للصناعات النفطية الكيماوية والأسمدة والمخصبات.
في لقاء وزير الصناعة البيلاروسي ذكر أن وزارته تتبع لها «200» منشأة حجم إنتاجها عشرة مليارات دولار، وتوجد علاقة قديمة مع السودان في تصدير تراكتورات كما توجد شركات متخصصة في صناعة الصوامع ومختلف المعدات الزراعية، وأ نه زار السودان قبل ست سنوات عاد بانطباعات جيدة تؤهل للتعامل المستقبلي. وزير الزراعة الاتحادي إبراهيم محمود ذكر خلال اللقاء الاتفاقيات التي تم التوصل إليها مع الشركات الصناعية البيلاروسية من شراء للتراكتورات والآليات الزراعية والأسمدة والمبيدات والتسهيلات المطلوبة والشراكات التي تم التفاهم فيها بين البنك الزراعي السوداني خلال هذه الزيارة، كما تم الاتفاق على تجميع الآليات الزراعية في السودان واستهداف السوق الكبير في إفريقيا، واقترح أيضاً إنشاء مشروع تجريبي مشترك لتجربة الآليات والتقنيات الزراعية.
وزير الصناعة البيلاروسي أعلن عن موافقتهم لكل ما جاء في حديث الوفد. وقال نحن بصدد إرسال وفد للسودان خلال شهر أغسطس، ووفد من شركات الصوامع. ونوه إلى أن اللجنة الوزارية مع السودان التي يرأسها وزير النفط من جانبهم، ستعرض خلال اجتماعات اللجنة في الخرطوم كل الاتفاقية التي أقرتها مذكرة التفاهم التي عرضت من قبل واقترح في المجال المالي والتمويل أن تقوم مصارفهم للعمل على التمويل، وسيتم الفراغ منها خلال الزيارة للسودان.
بين برلمانين
كانت زبدة اللقاءات والأهم بينها، اللقاء والمباحثات الرسمية بين المجلس الوطني في السودان والمجلس الوطني البيلاروسي، وتم اللقاء في مقر البرلمان البيلاروسي في قلب العاصمة منسك، حيث استقبل السيد «فيكتور غومنسكي» نائب رئيس البرلمان، ود. عيسى بشرى نائب رئيس المجلس الوطني والوفد المرافق له، وبدأ اللقاء الرسمي بترحيب من غومنسكي، وقال إن هذه زيارة فريدة تعبر عن الرغبة في تطوير العلاقات وخطوة إيجابية في ترقيتها في كل الأصعدة.. وقدم شرحاً عن البرلمان البيلاروسي وتكوينه
وهياكله وعرف برؤساء اللجان الموجودين في الاجتماع.
وقال غومنسكي إنهم متحمسون لهذه الزيارة، وما تم فيها مع الوزارات والشركات وسيضعون حجر أساس قوي، وهناك حاجة مشتركة من البلدين لبعضهما البعض، نظراً للإمكانيات التي يتمتعان بها لتكامل اقتصاديهما، وذكر أنهم مطلعون على الملف السوداني، ويعرفون الكثير والظروف التي مر بها السودان منذ «2007م»، مشيراً إلى اللجنة المشتركة بين البلدين، وبطء العمل فيها، لكنا الآن مستعدون لبث روح جديدة في العلاقات، والتنسيق المشترك في المحافل الدولية خاصة عبر لجنة مشتركة في البرلمانين. وأكد استعداد البرلمان لمتابعة كل الاتفاقيات التي تبرم بين البلدين، وأن يكون هذا العمل قاعدة بيانات للتعاون المشترك المستمر في المجال الاقتصادي والتجاري خاصة الزراعة والصناعة خاصة أن بيلاروسيا تريد تمليك السودان كل خبراتها الزراعية والتعاون معه في نقل الآليات والتقنيات لشراكة كاملة في الزراعة. وختم بأنهم يدعمون بصورة عاجلة وجود سفارة تعمل في البلدين، وسيدعمون البيت السوداني البيلاروسي في هذه المرحلة بقوة لتنسيق العمل المشترك، وأضاف نحن نفتقر لوجود مساهمين سودانيين أو منتجات سودانية.
د. عيسى من جانبه، استعرض العلاقة بين البلدين في المراحل المختلفة، وأن هذه الزيارة تمثل أملاً في تطويرها، وعرف بالبرلمان السوداني، وهيكله وتكوينه ودوره ومهامه والنظام الانتخابي الذي ينتج عنه في الدوائر الجغرافية والنسبية والمرأة وتمثيل الأحزاب. وتناول عضوية السودان في اتحادات البرلمانات والمنظمات الإقليمية والدولية، وقدم شرحاً للأوضاع في البلاد والحوار الوطني، وطالب بأهمية وجود بيلاروسيا وروسيا وكازخستان في دعم الحوار الوطني السوداني، مثلما تفعل الدول الأوروبية التي توجد تحت مسمى الترويكا الغربية وهي تعمل مع معارضي السودان.
وقال عيسى إن لجنة برلمانية سيتم تكوينها وسيقوم وزير النفط السوداني بصفته رئيس اللجنة الوزارية بزيارة بيلاروسيا لاستكمال اتفاقيات التعاون، كما أن البنك الزراعي السوداني خلال هذه الزيارة سيعمل على ترتيب الشراكات في المجالات الزراعية وتطويرها وسيُحظى باعتمادات مالية وفق سياسة الدولة للمضي قدماً في هذا الاتجاه.
وعبر عيسى عن شكره للبرلمان البيلاروسي ومواقفه، وأيد ما قاله نظيره بتوقيع مذكرة تفاهم متكاملة في مختلف الأصعدة مع
البرلمان البيلاروسي للتعاون والشراكة.
البيت السوداني البيلاروسي
لعب البيت السوداني البيلاروسي، وهي هيئة غير حكومية تعمل في مجالات تنظيم العلاقة الاقتصادية والتعاون الثنائي بين البلدين، دوراً كبيراً في نجاح الزيارة ومتابعتها وترتيب مواعيدها والتنسيق مع الوزارات والجهات البيلاروسية، ويقوم على هذا البيت مجموعة من رجال الأعمال والشباب البيلاروسي، وقد أنشئ البيت السوداني البيلاروسي بمبادرة منهم ويحظى بدعم كبير من قيادة الدولة، ويعول عليه أن يقدم الكثير لهذه العلاقات.
صحيفة الانتباهة
ت.إ
/JUSTIFY]