قرية بدون مدراس
تسكن فرحة ريفي الدندر ومثل غيرها من الفتيات الصغيرات هناك، يخططن ويحلمن ويلعبن بـ (بنات أم لعاب)، وسكسك والحجلة، بالتأكيد هي لا تحلم بكتاب أو كراسة أو قلم أو ألوان، لأن قريتهم ليست بها مدارس ومن يعرف القراءة والكتابة فيها شخصان فقط، أما الزواج فهو كابوس راودها في ليلة كثيرة الضجيج، مليئة بالرقص والدفوف والحناء، وكان أكبر مخاوفها أن هذة الأسرة الجديدة ستأخذها من بيتها وأهلها وصديقاتها، وكان خوفها أكبر وأشد من ذلك الغريب ذي التصرفات الغبية والأفعال التي لاتفهمها ولا تريدها، وهو بدوره ظل يحاول في كل مرة ويفشل، فختانها كان فرعونياً قاسياً.
خوف الفضيحة والجرجرة
ما كان من ذلك الغريب (زوجها) إلا وأن أحضر سكينا ليساعد نفسه ويحظى ببعض متعة دموية، لكنه تسبب لها بأذى مهبلي جسيم، ومن هنا بدأت معاناتها النفسية والجسمانية العميقة، حيث ظل أهل زوجها يخبئون ما فعل ابنهم ويحرمونها من العلاج خوف الفضيحة و(الجرجرة)، ظلت كما المشلولة لا تستطيع الحركة، طوقها الألم الفظيع، الألم القاتل، الحمى، الصداع، وكأن الموت يقترب منها ببطء لكن بكل ثبات، ألم وعذاب لا نظير لهما، وأهل زوجها يخبئونها، لكن فجأة انكشف أمرهم بعد أن اكتشفت أسرتها الأمر، فأخذتها بالقوة إلى أقرب مستشفى، وتم تدوين بلاغ بالحادثة لدى الجهات المختصة.
الحكاية المؤلمة
القصة المحزنة يرويها (د.خالد نصر الله) من مستشفى الشرطة، يقول: حولها المدير الطبي بذاك المستشفى إلينا، وهي في وضع كارثي، جاءت وهي مكتملة الإجراءت القانونية، سألتها عن أورنيك 8 فكان عندها، واستعنت بـ (د.محمد يس) لأنه الجراح الماهر لإجراء الجراحة.
إنها إحدى الحكايات التي استمعت إليها، بدعوة من منظمة (سيما) المختصة في قضايا العنف ضد المرأة والطفل في إطار احتفالها بعلاج (فرحة) احتفال ليس شكلياً بل لمنافشة هذه القضية، حيث انضم إليه ثلة من الصحفيين وممثلي المجلس القومي لرعاية الطفولة ومختصين في علم نفس ومهتمين بقضايا المرأة والطفل وأطباء (فرحة) محمد يس وخالد نصر الله.
تحدثت الممثلة عن المجلس القومي معربة عن أن قضية زواج الأطفال من القضايا التي فتحها المجلس فانفتحت علية النيران، فالتيارات المناوئة لفتح مثل هذه القضايا والتداول حولها في الهواء الطلق تيارات قوية ومعضدة ومكرسة في المجتمع. وأشارت الممثلة إلى أن دور المجتمع المدني أقوى من دور الحكومة. فالمجتمع المدني لديه مراكز تباشر مثل هذه القضايا منذ وصولها (اكتشافها) وحتى نهايتها، بينما لا يوجد إلى الآن أي مركز حكومي مختص بهذا الشأن. وأضافت: لا نريد أن نبدو ضعيفين، ولكن ما نقوم به دور تكاملي ينبغي أن تشاركنا فيه أطراف أخرى. وختمت قائلة: المصيبة تأتي دائماً بفائدة. فـ (فرحة) وأخوها الذي حضر معها وأمها هم الآن دعاة بين أهل منطقتهم لمحاربة تلك العادات القبيحة كزواج الطفلات.
ضرر بالغ وفوبيا محتملة
يقول (د.محمد يس) وهو الطبيب الذي أجرى الجراحة لفرحة، كما اتصل بمنظمة (سيما) لمتابعة حقها القانوني وتأهيلها نفسياً. يقول: عندما استقبلنا حالتها كانت تعاني ضرراً بالغاً في جهازها التناسلي، إلاّ أن صحتها تحسنت كثيراً وباضطراد بعد إجراء العملية. وأشار (د.محمد يس) إلى – ما أسماها – صعوبات حتمية ستواجهها فرحة في المستقبل، خاصة عند ممارستها لحياتها الزوجية. وأضاف: ما أخشاه عليها الآن هي آثار الضرر النفسي الكبير الذي تعرضت له.
من جهتها، كشفت الطبيبة النفسية (د.صفاء) أن (فرحة) كانت تعاني من حالة اكتئاب قاسية وبكاء مستمر وعدم رغبة في الكلام، لكنها الحالة (خفت) نسبياً، لكنها لم تستبعد أن تعاودها بعض النوبات النفسية مستقبلاً، وربما عانت من فوبيا الزواج، وشددت على ضرورة أن تواصل جلساتها النفسية حتى تخرج من المأزق الراهن.
مؤشر كارثي
اختتمت الجلسة بكلمة من مدير المنظمة (ناهد جبر الله)، حيث أشارت إلى أن (أورنيك 8) هو الشاهد على ما حدث للزوجة الطفلة في تلك المنطقة النائية التي لا يوجد بها تعليم على الإطلاق، وهذا مؤشر كارثي، وبالتالي نحن أمام ثلاث قضايا (عدم تعليم، ختان فتيات، وزواج قاصرات). وأشارت (جبر الله) إلى عدد من الشراكات التي تفخر بها الناشطات بالمنظمة، مثل شراكة مستشفى الدايات أم درمان، وأشارت إلى أنهم توصلوا الآن إلى شراكات مؤسسية مع مستشفيات أخرى لتقديم بعض الأدوية الرمزية، وتدريب الكوادر من الناحية التثقيفية، وفي فحص الحالة وتجميع الأدلة، كما أنهن عقدن شراكة مع برنامج مكافحة الأيدز، وأعربت (جبر الله) عن اعتزازها بشراكتهم مع أسر بعض الضحايا في العمل التوعوي.
ثم ماذا بعد؟
بوعي أو بلا وعي تتساءل (فرحة) ماذا بعد؟ لا قوانين ولا إجراءات قوية تحمي حقي في التعليم وإنسانيتي من تشويهي بالختان الوحشي، ولا من اغتصاب حياتي كاملة بتزويجي وأنا قاصرة؟ لكن، من يستجيب؟، من يشرع أذنيه وقلبه ووجدانه لهؤلاء الفتيات الصغيرات؟ من يحميهن من الكبار اللئام؟ من ومن ومن..؟ فالأسئلة لا تنقضي، والإجابات لا تأتي إلا إذا عملنا يداً واحدة حتى نغير هذا السائد الرث.
آمنة جبريل: صحيفة اليوم التالي
ي.ع