في مطلع الثمانينيات، أصدر الحاخام هارولد كوشنر كتاباً ذاع صيته بعنوان (لماذا تحدث الأشياء السيئة للأشخاص الطيبين)، وكعادة الخواجات جاء مضمونه نتاج تجربة شخصية لمؤلفه الذي توفي ابنه بمرض وراثي نادر ..!
الإجابة على السؤال الذي يثيره الكتاب حاضرة ـــ بطبيعة الحال ــ في القرآن الكريم (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين)، وفي السنة النبوية (إذا أحب لله قوماً ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع) .. يعني ــ ببساطة ــ لم يفعل الأخ هارولد في كتابه ذاك أكثر من ممارسة الدور التاريخي للعلماء والمفكرين الخواجات (إعادة اكتشاف مضامين آيات قرآنية نزلت قبل خلقهم بمئات السنين) ..!
كل واحد منا ــ بالطبع ــ يرى في نفسه شخصاً طيباً، وهذا جزء من فلسفة الإنسان في تبرير أفعاله ومواقفه “وإن كانت شروراً مستطيرة”، لكن الشاهد من كتاب كوشنرهو تحفيز القارئ على التفكير الإيجابي عند مقارعة المصائب، بحيث تزداد قناعته ــ يوماً بعد يوم ــ بأن كل موقف صعب يمر في حياته هو امتحان أخلاقي على وجه ما ..!
تجول مثل هذه الأفكار في أذهاننا من حين لآخر، ولكنها لا تتنزل على ساحات يقيننا كما ينبغي لها ولنا إلا عندما نتعثر بموقف (ما) يمسك بحياتنا من كتفيها ويهزها هزاً ليمنحها بعداً جديداً .. ومثل ذلك ــ بالضبط ــ ما حدث معي عندما لقنني عابر سبيل فقير أعرج ــ لم يخاطب لساني لسانه يوماً ــ درساً لن أنساه ما حييت في صدق ذكر لله، وكثير شكره، وحسن عبادته ..!
كنت ــ ذات يوم ــ في أسوأ أحوالي المعنوية، وكانت محاولات إبليس الدؤوبة لإيقاعي في فتنة سوء الأدب مع لله بجحود النعم في أوج نجاحها، فكنت أسير في طريقي إلى دكان الحي بوجه منطفئ وعينين ذابلتين من فرط الشعور بالألم والظلم والقهر، وأنا أظن نفسي أكثر أهل الأرض شقاء وبلاء ..!
وبينما كنت أسير ــ على حالي ذاك ــ مر بجواري رجل هزيل، أعور، أعرج، يجر ساقاً واحدة .. ويحرك يدا واحدة .. وينظر في الطريق بعين واحدة .. نصفه حي ونصفه الآخر ميت، ومع ذلك كان يستغفر لله كثيراً وهو يبتسم ..!
ليس ذلك فحسب، بعد زيارة تالية إلى ذات الدكان علمت بأنه قريب لصاحبه، قادم من إحدى مناطق السودان النائية، وكلما صادفته في غدوي ورواحي رأيته يتوضأ أو يصلي أو يقرأ بعض آيات القرآن عن ظهر قلب، وما سمعته يتحدث قط إلا ويذكر لله ويثني عليه، وإن ضحك لأي سبب يستغفر لله..!
فكان بحاله ذاك، وهو ابن السبيل الفقير، المبتلى بإعاقة الجسد، وغربة المكان، أكثر رضا وقناعة ، وأشد ثناء على خالقه، وأعظم أدباً مع ربه من عاصين كُثُر، أجسامهم معافاة، وبطونهم وجيوبهم ملأى، وقلوبهم خواء ..!
الكاتب : منى أبوزيد
صحيفة الرأي العام