بعد طول الجفاف ومحل الغربة يأتي الري مع نسائم الصباحية متمثلا في حضن أبي الدافئ المشرع لاستقبالي في المطار، ثم انطلاقي معه في عتمة الفجر بالسيارة التي تنهب بنا الطرقات الخالية نهب المشتاق لتوصلني لحضن أم درمان ومن ثم حضن أمي وإخوتي الحنان.
بـ قوة تماثل قوة مشاعري نحو الشروق ولكن تعاكسها في الاتجاة، كان وما زال احساسي بالغروب .. فأنا اتشارك مع شاعر المهجر (جبران خليل جبران) الشعور بالقتامة والكآبة الذي تحمله ساعة غروب الشمس، والذي ابدع في التعبير عنه وصياغته في قصديته (اني اقمت على التعلة بالمنى) .. فقد شبة في القصيدة قتامة مشاعره بكآبة الغروب والذي اعتبره مصرع للنهار وضوئه كما في قوله:
تغشـى البرية كـدرة وكأنـهـا .. صعدت الى عينى مـن احشائي
والافـق معتكـر قريـح جفـنـه .. يغضيى علـى الغمـرات والاقـذاء
يا للغروب ومـا بـه مـن عبـره .. للمستـهـام وعـبـره للـرائـى
او ليـس نزعـا للنهار وصرعـه .. للشمـس بيـن ماتـم الاضــواء
أوليس طمسا لليقين ومبعثا للشك بين غلائل الظلماء؟
أوليس محوا للوجود إلى مدى وإبادة لمعالم الأشياء؟
يرتبط غروب الشمس بالكثير من الاعتقادات والتقاليد النسائية، فـ نفض الاسبار يتم ساعة المغرب، وإجراءات فك الكبسة تتم في غالبها ساعة الغروب وفي مواجهة القمر ساعة ظهوره، ويحظر على زوجة الميت مغادرة خدرها ساعة الغروب، كما يرتبط الغروب في الوجدان الديني بساعات قبول الدعاء وحضور الملائكة، ولكم رأينا أيدي حبوباتنا ترتفع بالدعاء تضرعا لله ساعة سماعهن لاذان المغرب، وتبركا بـ (يا بركة المغارب وسيدي علي ابو طالب) أو(يا بركة الليل الأمسى والاوقات الخمسة).
كما يحتل الغروب موقعه المتميز في قلوب الشعراء من زوي القلوب والاحاسيس المرهفة، والفنانيين والتشكيليين والعشاق .. وطبعا المشوكشين المكتويين بفرقة الاحباب والدليل (ألولو) التي تغنى بها ابراهيم حسين:
مع ساعة الغروب مشيت أسأل عليكم .. حليلكم يا أحبة وحليل آمالنا فيكم
وان خالفها حمد الريح عندما تغنى:
( نحنا راجعين في المغيرب للديار لا حد يشوفنا لا نشوفو) ..
ومثلها كانت العودة من الحقول والعمل لحضن البيوت بعد الاجتهاد في السعي لكسب الرزق.
لا استطيع ايضا أن أميز بدايات سعي الدؤوب لتجنب ساعة المغارب، ولكنه طغى وتمدد حتى صار كـ محطة (قف تأمل مغرب العمر وإخفاق الشعاع) في سنة برلمتي الأولى، فقد كانت بلكونة غرفتي تواجة جهة الغرب مباشرة، لذلك كان لون الضوء فيها يتحول لحمرة دموية ساعة الغروب، التي تتزامن مع عودتي من الكلية مجهدة وتعبانة وطابعا فاقدة حنان أهلي ناس السودان، لذلك كنت اسعي لتجنب رؤية مشهد الغروب بغلق ستائر الغرفة واضاءة الانوار حتى يكتمل دخول الليل، وتلك عادة صاحبتني حتى اليوم فما أن (الواطة تمعصر) .. دي جاية من تبقى عصر! حتى اسرع باضاءة كل الانوار وأتضايق بشدة اذا ما اغلقها احد قبل دخول الليل.
يقال أن الممثلة العالمية (ناتالي وود) كانت تكره البحر وتخافه بصورة غريبة، ورغم اجادتها للسباحة إلا انها كانت تتجنب البحر وتكتفي بالبلبطة في حمامات السباحة، ويقال انها اسرت لبعض خلصائها انها تخاف البحر لاحساسها بأن نهايتها ستكون فيه وهذا سبحان الله ماحدث بالضبط، فقد زلت قدمها وسقطت في البحر من على يخت في رحلة بحرية، ولأن الوقت كان ليلا لم ينتبه لها احد وظلت تصرخ طلبا للنجدة حتى خارت قواها وغرقت كما تنبأت لنفسها ..
عندما اتذكر مأساة (ناتالي) وتتردد في خاطري ابيات جبران:
مـرت خـلال غمامتيـن تحـدرا وتقطـرت كالدمـعـه الحـمـراء
فكأن اخردمعـه للـكـون قــد مزجـت بآخـر ادمعـى لرثائـى
تمتلكني فكرة انو ساعة انقراضي ان شاء الله بعد عمرا طويل – حا تكون في المغرب .. غايتو لو ده حصل لما نقبال يوم القيامة حا اذكركم كلامي !!
لطائف – صحيفة حكايات
munasalman2@yahoo.com