حياة الضياع: يتسولون الأموات.. أطفال يبحثون عن الطعام بين شواهد القبور

[JUSTIFY]ليست تصالحاً مع النفس، لأن الذين في أعمارهم لم يجربوا بعد نزاع الذات، ولكنها الحاجة إلى الطعام هي التي دفعتهم إلى البحث عن رزقهم بين شواهد القبور!! يسيرون بانتظام وهدوء بين القبور، يبالغون في احترام الموتى كأنهم يريدون تبرئة أنفسهم من التقاط الشواهد التي انتزعتها العوامل الطبيعية من مكانها، تبدو على وجوههم صرامة تتجاوز طفولتهم كثيراً، ثلاثتهم يجوبون مقابر (البكري) بأم درمان، يحمل كل منهم (مخلاته) على ظهره بجهد جعل العرق يتصبب من جبهته التي سلب الفقر المبكر نضارتها دون رحمة. قال: الرجل الذي كان يرافقنا من أجل أن يدلنا على قبور بعينها “إن هؤلاء الأطفال المساكين يبحثون عن الحديد والقوارير باستمرار في هذه المقابر”. وأردف دون أن يرفع نظرته المواسيه عنهم “أرهقتهم مطاردة الناس لهم في الأحياء فلجأوا إلى هنا بحثاً عن الأمان”. قلت له سراً “إن الناس لا يحترمون أنفسهم إلا أمواتاً”.
{ البحث عن الطعام بين شواهد القبور!!
ليست السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو عن الحالة النفسية والاقتصادية لهؤلاء الأطفال، وما هو منبتهم، ولكن السؤال يجب أن يكون “لماذا يبحث أطفال في هذا العمر عن مصدر للرزق بين قبور الأموات بجهد يفوق طاقتهم وسنواتهم اليانعة؟”. بكل يقين إنهم لم يختاروا طريقة كهذه للعيش بإرادتهم، وهم لا يزالون يفتقدون الإرادة والقرار لصغر أعمارهم، ولكن حتماً أن أسراً بأكملها تقتات من عرق جبين هؤلاء اليافعين الذين ولدوا وحبل الفقر يحتل مكان حبالهم السرية. يجمعون الشواهد وبقايا المعاول التي يتركها أهل الموتى حول القبور وقوارير المياه التي يأتي بها المشيعون، يلتقطون كل ما يصلح للبيع، ولو لم يكن غالياً، ومن ثم يعودون في يوم غد للنبش عن بقايا شواهد ومعاول أخرى! ثلاثتهم امتنعوا عن الحديث وعندما كثر الإلحاح عليهم للإفصاح عن دوافعهم للقيام بهذا العمل الذي يبدو مخيفاً أكثر من كونه شاقاً، وأين تذهب عوائد (الخردة) التي يقومون بجمعها، لم يكن أمامهم بد غير إطلاق سيقانهم للريح والهروب إلى خارج المقبرة ليس خوفاً على ما قام بجمعه من السلب، ولكن لغرض كتم سر الحاجة التي دفعتهم لولوج المقابر للبحث عن طعامهم بين الموتى.
{نبش الزبالة لقهر الفقر!
لو أن عددا من الأطفال دفعتهم ظروفهم الأسرية للبحث عن لقمة العيش بين الأرماس، فإن هؤلاء دون شك حالفهم الحظ لأنهم لن يتعرضوا للضرب والمطاردة كنظرائهم الذين يجوبون الأحياء والأزقة لجمع ذات المخلفات لبيعها في الدلالات التي نبتت مؤخراً للغرض نفسه كما يفعل الطفل (موسى) صاحب الاثني عشر عاماً الذي يجوب عدداً من الحارات بأم بدة منها(30، 29، 28)، ولكنه بحسب قوله يتعرض للضرب كثيراً من السكان الذين يتهمونه بسرقة (البلاعات) وأغطية (المنهولات). (موسى) الذي يبحث عن الخردة بحذر وسط الأحياء يعود في المساء لأسرته بما جمعه، وهو لا يتعدى العشرين جنيهاً في أحسن الأحوال، فيسلمه لوالدته لتقوم بتوزيعه بين مصاريف إخوته الصغار ووالده العاجز عن الحركة، وبين إخوته الذين يدرسون بمرحلة الأساس.
من أجل إعالة أسرته في هذه السن المبكرة ترك (موسى) المدرسة ولأن عمره وبنيته الجسمانية لا تؤهلانه للقيام بأي عمل آخر اختار جمع الخردة من أكوام النفايات والمنازل المهجورة ومحطات المواصلات وبالقرب من الورش والمخازن.
{حياة الضياع
لا يختلف البحث عن لقمة العيش بين القبور أو وسط الأحياء السكنية، ففي الحالتين تنتزع براءة الطفولة بأنياب الفقر والعوز والحاجة ويتلاشى مستقبل مئات الصغار، ذنبهم الوحيد أنهم خرجوا للحياة لأسر لا تستطيع توفير العيش الكريم لهم، هكذا ينظر الأستاذ (سراج محمد الحسن) معلم لغة إنجليزية بالمرحلة الثانوية لعمل الأطفال في جمع الخردة لغرض إعالة أسرهم، ويؤكد (سراج) أن قضية قيام الأطفال بأعمال ممتازة في أماكن مريحة وأوقات محددة تخالف كل الشرائع والقوانين والمحلية والدولية، ويجب أن يعاقب عليها من دفعهم نحوها ناهيك عن عمالة، في حد ذاتها، تعد اضطهاداً وانتهاكاً صريحين لطفولتهم.
ويرى (سراج) أن مهنة جمع نرد الحديد من المناطق والأماكن المذكورة تعد خطوة أولى نحو التشرد لأنها تحرم هؤلاء الصغار من مواصلة تعليمهم وتزج بهم في أتون عوالم البحث عن المال الذي كثيراً ما يفسد الأطفال، إذا طُلب منهم البحث عنه، لأنهم يتخذون كل الطرق والتي غالباً ما يكون بعض منها سلوكاً غير سوي كالسرقة أو التسول أو السطو على ممتلكات الآخرين كما يحدث في سرقة المنهولات والمواسير وغيره بواسطة أطفال صغار في السن. وطالب (سراج) الأسر بالمحافظة على أطفالها وعدم الزج بهم في مثل هذه الأعمال كما ناشد الجهات الرسمية القيام بدورها في تقديم المساعدة لأسر هؤلاء الاطفال حتى لا يتم إفسادهم بمثل هذه الأعمال.

صحيفة اليوم التالي
أ.ع

[/JUSTIFY]
Exit mobile version