[ALIGN=CENTER]حبس انفرادي ولكن “إرادي” [/ALIGN]
كانت الفترة التي أعقبت خروجي من السجن من أخصب فترات حياتي، بل شكلت نقطة تحول في تكويني الثقافي، فقد استأجرت غرفة في عمارة في السوق الجديد بالخرطوم بحري قبالة نادي التحرير الرياضي، سبقني إليها عدد من زملائي السابقين في سجن كوبر من أبناء الأقاليم النائية، وكان بالطابق الأرضي للعمارة مطعم “أمل” الذي يملكه قريبي صالح يعقوب، وكنت بالتالي أحصل على خدمات طعام فندقية، أي ان الوجبات كانت تأتيني وأنا في غرفتي (روم سيرفيس)، ولكن لم يحدث قط ان تناولت أكثر من وجبتين في اليوم الواحد طوال إقامتي في تلك العمارة، ولم يكن بالغرفة أثاث سوى سرير وتربيزة (طاولة) صغيرة، وكنت أعلق ملابسي على مسامير مثبتة على باب الغرفة، وكانت أرضية الغرفة مغطاة بالكتب.. كان كتاب ما يشدني فأظل أقرأ فيه حتى انتهي منه، وهكذا كنت أحيانا أفرغ من قراءة خمسة كتب في الأسبوع الواحد، وشيئا فشيئا فقدت الإحساس بالزمن، فلأن الغرفة مضاءة 24 ساعة (لأنه لم تكن بها سوى نافذة صغيرة تسمح فقط بمرور جرعات قليلة من الأوكسجين)، لم أكن أحس بدخول الليل او الصباح إلا بالنظر الى الساعة، وكثيرا ما استيقظت من نومة طويلة لاكتشف ان الساعة بلغت الثالثة فجرا، مما يعني انني كنت أنام حسب التساهيل أحيانا في السابعة مساء بل وأحيانا في الثالثة عصرا لأجد نفسي نشيطا في منتصف الليل، ويعصر الجوع مصاريني فأنبش جنبات الغرفة بحثا عن تمر او بسكويت، ثم اكتشفت أمر سيدة تبيع اللقيمات وشاي الصباح قرب مطعم في السوق وجل زبائنها من العمال المتوجهين الى المنطقة الصناعية.. كان ذلك اكتشافا مهما لأنني أحب اللقيمات ولأنني صرت قادرا على إسكات عواء مصاريني عند الاستيقاظ في ساعات يكون فيها المطعم مغلقا.
وفي تلك الفترة قرأت كل ما وقع في يدي من كتب عن تاريخ السودان، ووقعت في غرام علم الأنثروبولوجي (تطور الأجناس البشرية وأعراقها وعاداتها إلخ)، وتعرفت على عدد من الروائيين الأمريكان وكنت قبلها لا أقرأ إلا لكتاب بريطانيين.. وذات صباح (يا فتاح) خرجت من غرفتي في الطابق الأول من العمارة قاصدا محطة الشاي واللقيمات، ولم يكن سلم العمارة مضاء، وفجأة وجدت نفسي “أغرق” أي والله العظيم.. انزلقت رجلي ووجدت نفسي مغمورا بالماء فصرخت من هول المفاجأة.. هل هذا كابوس أم أنني كنت أقضي الليل في مركب على النيل ونزلت في الماء وفي جفوني بقية من نوم؟ سعدت لأنني وجدت رجلي ثابتة على الأرض بينما وصل الماء إلى خاصرتي.. تلمست طريقي الى السلم وأنا في حالة فقدان توازن عقلي وجسماني، وصعدت الى أعلى ووقفت عند شرفة تفصل بين الغرف وألقيت نظرة على الشارع الرئيسي وانتبهت إلى أن البلد كلها غارقة وأن أمطارا عنيفة ما تزال تجلد الساحات والبنايات.. وأدركت أن المياه تسربت الى الطابق الأرضي من العمارة وغمرته.. وبعد نحو عشر ساعات قررت الخروج لتفقد أحوال أهلي في المدينة ولكن سرعان ما تراجعت عن ذلك القرار لاستحالة الوصول الى أي موقع بدون قارب.. كانت أمطارا استثنائية دمرت مئات البيوت.. ولم يفتح المطعم الذي كان في الطابق الأرضي أبوابه طوال يومين واختفت بائعة الشاي واللقيمات ثلاثة أيام، وكنت سأهلك جوعا لولا أن بعض أقاربي أتوني بمواد تموينية على شاحنة ثم اقتادوني معهم محتجين بأنه لا يجوز لي ان أعيش مثل “المقاطيع” بينما بيوتهم مفتوحة أمامي في المدينة.
أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com